مرّت الإنتخابات النيابية في لبنان وتغيرت معها صيغة التحالفات داخل المجلس النيابي وبات من الواضح تماماً ان ما قبل الانتخابات غير ما بعدها، ولم يكن الاستحقاق هو المشكلة. فالقوى نفسها التي كانت لم تغب عن المشهد قد بقيت، غير أن عمليات تبدل في التحالفات والأحجام حصلت، وجاءت الحصيلة لترسم خريطة معقدة ستبنى عليها الحكومةالجديدة في البلد. لكن المشكلة لا تكمن هنا، فتظهير التشكيلة الوزارية في بيروت تأتي في مرحلة شديدة الحساسية أكثر من أي وقت مضى ومحكومة بالتوتر في ظل المواجهة إقليمياً ودولياً بين واشنطن وطهران، ففي الوقت الذي تخوض فيه طهران في بغداد صراعاً لإعادة جمع شمل «التحالف الشيعي»، وقطع الطريق على الكتل التي تناوئها أو تتمرد عليها وحرمانها من الحكم. وبالوقت نفسه تستعجل إدارة الرئيس الاميركي بناء تحالف واسع ضد إيران ونشاطاتها السياسية في المنطقة العربية وبرنامجها الصاروخي، وهو ما يدفع الأمور الى تشكيل نواة جديدة حيال الإقليم، وهذا ما سيعلنه وزير الخارجية الاميركي، وفي هذا السياق تأتي حزمة العقوبات الثالثة التي فرضتها الولايات المتحدة مع شركائها في «مركز مكافحة الإرهاب» في الرياض على قيادات «حزب الله» استبقت أيضاً المسار الدستوري لتأليف حكومة لبنانية جديدة، وعلى الرغم من الفوارق بين ما يجري في كل من لبنان والعراق لكن في إطار عمليات المواجهة ما بين الولايات المتحدة وايران ثمة ربط بين كلا البلدين.
إقرأ أيضًا: نحو خلق بديل مدني
وإعتبارهما جزءً لا يتجزأ من المواجهة الحاصلة والتي ارتفعت حدتها خصوصاً بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي. واتسعت رقعتها ووصلت الى بلدان شمال افريقيا وقام المغرب بقطع علاقاته مع إيران ولم يقف الامر هنا بل قامت المغرب باتهام «حزب الله» بدعم جبهة «بوليساريو»،و بتدريب عناصرها وتسليحهم من خلال السفارة الايرانية في الجزائر، فالمرحلة الجديدة التي أطلقتها الانتخابات في لبنان ستحدد ملامحها الحكومة المقبلة.
لقد أفرز الاستحقاق الدستوري خريطة أحجام جديدة سيكون لأصحابها دور وصوت، وإذا كان المشهد السياسي في بيروت، فإن طهران ستجهد لتأكيد حضورها في صدارة المشهد اللبناني، وحجز موقعها المتقدم في إدارة الحكم من خلال الحكومة المنتظرة، لكنها ستواجه هذه المرة إدارة أميركية مختلفة بالاضافة الى قوى غربية وعربية حليفة تسعى إلى تحجيم الدور الايراني وتقليص دور أذرعها وبشكل خاص "حزب الله" ووقف تدخلاتها في المنطقة، ولا شك في أن شكل الحكومة سيؤشر إلى ميزان القوى بين الأطراف المتصارعة.
سيبدو من السهل أن تُجمع الكتل النيابية في البرلمان، أو معظمها، على تسمية الرئيس الحريري لتشكيل الحكومة. لكن الحزب حسب ما تشير بعض المصادر الى انه سيكون له تموضعاً آخر بالامتناع عن تسميته، كما حدث في السابق، لكنه بعد العقوبات الأميركية - الخليجية الأخيرة على قيادته السياسية لن يسكت أو يستكين، وسيطرح شروطاً ويرفع مطالب لن تكون سهلة على سعد الحريري، فالحزب سوف لن يتنازل عن حصته في الحقائب، ولن يفرط في دوره في رسم السياسة المقبلة، داخلياً وخارجياً. وسيدفع بحلفائه وخصوم الحريري السنة خصوصاً و سيدعمهم إلى حجز حصتهم الوزارية بعدما نال هؤلاء جزاً من مقاعد السنة. وهو بدأ يتحدث، في ظل موازين القوى الجديدة في المجلس الجديد، عن "الاستراتيجية الدفاعية"، مستعجلاً تكريسها استناداً إلى رؤيته، وهذا مرهون أيضاً بطبيعة تحالفه مع "التيار الوطني الحر".
إقرأ أيضًا: الإنتخابات ونتائجها وعُقد تشكيل الحكومة
هذا يعني أن مسيرة التأليف سوف لا تكون سهلة بل ستكون شاقة. ولن يكون سهلاً على الرئيس المكلف السير على واقع الخطوط المتناقضة. كما لا يمكنه أن يتجاهل تداعيات العقوبات الأميركية - الخليجية على الحزب وإيران، والأهداف من ورائها، والسؤال هنا هل ستظل سياسة النأي بالنفس خياراً قائماً؟ أم أن الرئيس الحريري مثلاً سيحتفظ بورقة التكليف ويبقى على رأس حكومة تصريف الأعمال بانتظار أن تنضج الظروف ويتم تذليل العقبات لتقديم تشكيلته فالأمر قد يطول أكثر مما هو متوقع. وهل سيرضى رئيس الجمهورية باستنزاف عهده في هذه الظروف الدقيقة... أم أنه سيستعجل ولادة حكومة وحدة وطنية لا تستثني مكوناً أو طائفة او مذهباً؟! ولكن لا يُعرف كيف ستتعامل معها الولايات المتحدة ودول الخليج وبين أعضائها ممثلون لـ «حزب الله» الموجود في كل المؤسسات! بل هناك سؤال عن كيف ستوفق هذه الدول بين مواصلة دعمها لبنان وحكومته ومؤسساته العسكرية والأمنية من جهة، والسعي إلى محاصرة قادة «حزب الله» من جهة أخرى؟ هل تستمر في نهج الفصل بين الحزب وباقي القوى التي تتشارك معه في الحكم وإدارة المؤسسات؟ ولا شك في أن الأمر مرهون بطبيعة ظروف المرحلة السياسية على المستوى الإقليمي والدولي وإلى ما ستؤول إليه الأمور وعلى هذ الأساس لايمكن التكهن بطبيعة شكل الحكومة اللبنانية المقبلة.