مرّ أسبوعان على إنتهاء الإنتخابات النيابية في لبنان ، ومعها ظهرت خارطة سياسية جديدة في البلد وتوازنات مختلفة كانت صادمة للجميع .
على مستوى الطائفة الشيعية ، كان واضحاً النجاح المبهر الذي حققته الثنائية الشيعية " حركة أمل " و " حزب الله " ، حيث فازا ب ٢٦ مقعداً من أصل ٢٧ مقعد مُخصّص للطائفة الشيعية في البرلمان ، حتى أن النائب ال ٢٧ أعلن عن تفاهمه السياسي مع الرئيس نبيه بري .
وقد إستطاعت حركة أمل الحصول على كتلة نيابية كبيرة من حوالي ١٧ مقعدا تقريبا ، ما يُعطي الرئيس نبيه بري مع حلفائه في البرلمان هوامش تحرّك أوسع ويدخلون إلى المفاوضات من منطق القوي .
لكن همّ الرئيس نبيه بري في مكان آخر أيضاً ، فقد أظهرت نتائج الإنتخابات ضعفاً شعبياً كبيراً في القواعد الجماهيرية لحركة أمل مقارنة بالحزب.
حيث أن الأصوات التفضيلية التي حاز عليها مُرشّحو حركة أمل كانت فاضحة بل مُهينة ، ما عدا الرقم الذي حصل عليه الرئيس نبيه بري في الزهراني ، والبقية كانت أرقامهم خجولة جداً ولا تعكس الحجم الحقيقي لحركة أمل على الأرض .
ولعلّ ما حصل في قضاء صور كان صادماً بدرجة أقوى للرئيس بري ، فالمنطقة هي أقوى قلاع حركة أمل في الجنوب ولبنان بشكل عام ومع هذا إستطاع مُرشّحا الحزب الحصول على أصوات تفضيلية أكبر من تلك التي حصل عليها مُرشّحا الحركة .
إقرأ أيضا : عرف النبيه مكانه فتدلل
وخلال الأسبوعين الماضيين وحتى هذه اللحظة ، لا يخلو أي صالون أو جلسة حركيّة في الجنوب من الحديث عن هذا الموضوع والنقاش في الأسباب التي أدّت إلى ذلك .
حيث برزت عدّة قراءات لما حصل وحلّ بالحركة في هذه الإنتخابات ، أبرزها أن المسؤولين في حركة أمل وعلى مختلف الصعد أصبحوا بعيدين عن هموم الناس ولا يُلبّون طلباتهم من خدمات وتوظيف كما كانت الحركة سابقاً ، وباتوا يتعاطون مع الناس بتكبّر ولا يردّون على هواتفهم ولا يُجالسون إلاّ أصحاب رؤوس الأموال ، بل بدأوا يحاربون أصحاب البيوتات التقليدية في كل ضيعة في الجنوب ومن لهم تاريخ مشرّف في الحركة وقدَّموا تضحيات ومعظم هؤلاء هم مفاتيح إنتخابية لعائلات كبرى ، مقابل تقوية المتمولّين فقط .
كذلك هناك خلل في الهيكلية التنظيمية لأمل وعدم إحترام لمركز أي مسؤول من قبل مسؤولين آخرين ، فمثلاً أصبح يدخل المسؤول الفلاني إلى قرية دون إعلام مسبق لمسؤول الشعبة ، وفي بعض القرى حصل أن أعلم أحد المسؤولين رابط الحزب بزيارته ومسؤول الشعبة كان آخر من يعلم ، وهذه الأشياء تؤدي إلى إضعاف هيبة الشعبة وإنعدام ثقة الناس بها .
وربطاً بهذا الموضوع ، هناك أناس من داخل القرى يتجاوزون الشعبة ليتواصلوا مع قيادات عليا في الحركة من أجل خدمة أو أي موضوع ، وهذه القيادات العليا تُلبيّهم إما لوجود مصالح مشتركة أو لأجل إضعاف الشعبة ومن فيها .
وإذا ما حصل أي خطأ ، تأتي هذه القيادات لمحاسبة الشعبة وينسون أنهم هم السبب الأساسي في خلقها .
حتى داخل الشعبة ، هناك إنقسامات وإختلاف حول هذا المسؤول أو ذاك ، أو خلاف بين قائد الكشاف و مسؤول الشعبة أو مسؤول الإعداد ، وتتداخل المشاكل العائلية مع الأمور التنظيمية ، فيتراجع عطاء الشعبة وتحلّ الفوضى بدل النظام.
وفي زمن السوشيال ميديا ، برزت " حركة أمل " كقوّة ناشطة في هذا المجال ، عبر تطوع شباب وصبايا لخدمة قضيتها دون أي مقابل مادي ، لكن رغم ذلك عُقدت لقاءات عديدة مع الرئيس بري ولم يتم دعوة العديد من الناشطين الحقيقيين والفاعلين بل تم إختيار بعض الأناس الذين لا يظهر لهم أي نشاط عند أي إستحقاق حركي أو أي مشكل أو هجوم تتعرّض له " أمل ".
ومعظم الناشطين الذين تم إستبعادهم هم الأكثر نشاطاً وفعالية وهم من تتعرّض أمهاتهم وأخواتهم للسبّ والشتم لدفاعهم عن حركة أمل ، ومع هذا تم إستبعادهم وإختيار غيرهم .
وبرزت في السنوات الماضية فوضى سياسية وثقافية ودينية في القواعد الجماهيرية للحركة ، فحصل إنقسامات عديدة بين عدّة آراء ، وإن كان التنوّع في الآراء يُغني أي تنظيم لكن يُصبح لعنة عندما يتحوّل إلى تكفير وفوضى ، فضعفت الرابطة الأخوية التي على أساسها يُبنى أي تنظيم .
وعلى سبيل المثال لا الحصر ، لم يتبرّع أي مسؤول ثقافي في الحركة لأن يطلّ إعلامياً ويحسم الجدالات الحاصلة حول قضية الدكتور علي شريعتي ، بل حتى عندما تعرّض الإمام المغيّب السيد موسى الصدر إلى إهانة من قبل أحد رجال الدين ، لم نسمع ردّاً واضحاً أو ذي قيمة حول الموضوع من أي مسؤول لكي لا يغضب عليه بعض رجال الدين الذين باتوا نافذين داخل التنظيم .
هذا الإنقسام العقائدي والثقافي خطير جداً في الحركة وتجاوز مسألة تعدّد الآراء ليصل إلى مرحلة تشتيت الصفّ الواحد .
إقرأ أيضا : ما في مسؤول إلاّ و أكل كف من بري
ويرافق هذا الإنقسام ، ضياع في تحديد الموقف السياسي من أي قضية ، فمثلاً هناك مناصرين في " حركة أمل " ضد النظام السوري مقابل أنصار يؤيدونه ، ومثل آخر حول الموضوع السعودي ، فرغم أن الرئيس بري له مواقف معتدلة وبنّاءة داعية للحوار والتقارب بين إيران والسعودية ، ترى بعض أنصاره يذهبون بعيدا في تبنّي لهجة وخطاب عدائي لا يشبه أدبيات الرئيس ولا خطاب حركة أمل الرسمي .
هذه الإنقسامات حولّت التنظيم إلى فرق ، وكل فريق له عقيدته الخاصة وموقفه السياسي الخالص ما أدّى إلى صراعات داخل التنظيم إنعكست نكايات في بعض الأماكن في الإنتخابات النيابية ، حيث تم توجيه رسائل من قبل البعض لمناصريهم بمنع الصوت التفضيلي عن هذا المرشح وإعطائه لذلك ، إضافة إلى غياب الجهوزية الإنتخابية في الماكينات ، لوجستياً ومادياً وبشرياً.
أمّا السبب الأهم لما حصل فهو سوء تفسير التفاهم الذي حصل بين الحركة والحزب ، ففي وقت سوّق الحزب لمناصريه أن هذا التحالف هو من أجل حفظ المقاومة ولا يعني أنهم أصبحوا جزءاً من الحركة أو العكس ، تم تسويقه حركياً على أن التحالف ألغى الخصوصية للتنظيمين وأصبحا تنظيماً واحداً.
أدّى ذلك إلى خلق حالة تكاسل لدى كوادر الحركة وأصبحوا مُتكلّين على الحزب في تحركاتهم ونشاطاتهم بل حتى أن روح المنافسة غابت .
وظهر هذا التكاسل بوضوح في الإنتخابات ، حيث تصرّف الحزب إنتخابياً بأنه في منافسة مع حركة أمل ، بينما الحركة كانت في سباتٍ عميق ومعتمدة كلياً على الحزب ، فحصل ما حصل .
كل هذه الأسباب مجتمعة ، أسهمت في الوصول إلى هذه النتائج الخجولة التي لا تشبه تاريخ حركة أمل ، لكن المؤكد أن بعض محبّي الحركة أرادوا إيصال رسالة في صندوقة الإنتخابات لمن يعنيهم الأمر ، بأن الكيل قد طفح من تصرفات هؤلاء المسؤولين ويجب محاسبتهم بل طردهم .
والشيء الجميل بل الإيجابي في الموضوع ، أن ساعة المحاسبة قد دقّت في حركة أمل ، وأول من حرّك المياه الراكدة هم أبناء أمل الذين قاطعوا الإنتخابات أو صوّتوا بورقة بيضاء .
فرسالة هؤلاء هي الغضب من الوضع القائم ويجب ممارسة فعل التغيير والمحاسبة ، وهذه الشريحة تتجاوز ال ٥٠٪ من الجمهور الأخضر ويجب الأخذ برأيها ، وإلاّ في الإنتخابات المقبلة ستخرج عن حيادها وتُصوّت للوائح الأخرى ووقتها تُصبح الأمور خارجة عن السيطرة بالكامل .
ويبدو أن الرئيس نبيه بري سيُقدم في الأيام وربما الأشهر القادمة على ورشة إصلاحية كبيرة داخل الحركة لمعالجة الأخطاء ومحاسبة المسؤولين ، فرهان أبناء حركة أمل عليه ، وحده فقط ، وهم خلفه وأمامه ومن كل الجهات في أي قرار على هذا الصعيد.