بسم الله الرحمن الرحيم والحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه ورسله محمد (ص) وعلى أهل بيته الميامين.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 133، 134].
إن النفس البشرية تسعى دائماً نحو الرضا والإطمئنان والسكينة حتى تشعر بالراحة والإستقرار، والإنسان بطبيعته كذلك يميل إلى حب الشهوات. وفي كثير من الأحيان تسيطر الشهوة عليه إن لم يمنعها أو يقيم حاجزاً أمامها حتى لا تتعدّى حدودها المشروعة. من هنا، نعلم أنه لا بدَّ من إعطاء هذه النفس فرصاً عدة لكي تساعد صاحبها في تخطّي مراحل الخطر الدنيوي، وحتى تكون هذه الحياة محطة جميلة قطعنا بها وبعدها السفر إلى عالم الإستقرار فنأخذ ما إكتسبناه وحصّلناه من الخير في عالم الدنيا.
وعليه، فيمكن القول أن الله تعالى هيَّأ للإنسان الفرص التي يجب أن يستفيد منها قبل فوات الأوان، وحتى يستفيد من هذه الفرص لا بدّ أن يدرك أولاً ونحن نعيش بداية شهر رمضان المبارك الذي خصّه الله عن باقي شهور السنة وجعله فرصة للإنسان كي يلجأ إليه ويعاود بناء ذاته وشخصيته الإيمانية الإنسانية التي سوف تحمل معها الزاد إلى السفر الطويل بعد الرحيل من الدنيا الفانية، جاء في الحديث عن النبي(ص): "إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرَّضوا لها ولا تُعرضوا عنها".
من هنا ندخل في فهم فكرة الصوم والصيام وأهمية هذه العبادة التي تقرب الإنسان من الله، والتي كان لها المكان الأهم في حياة الشعوب والطوائف والمِلل وأتباع الرسالات السماوية وغير السماوية حيث أن عبادة الصوم ليست فقط عند أصحاب الشرائع السماوية من المسلمين وغيرهم بل هناك الكثير من أصحاب المذاهب الدينية والمِلل والمعتقدات الدينية يتقرَّبون بالصيام إلى الله ولقضاء حاجاتهم.
فالمجتمعات الإنسانية مارست عبادة الصوم، وقد كان الصوم عقيدة مثلاً عند مِلل التوتميين والمجوس والوثنيين والصابئين والمانوية والبوذيين وعبدة الكواكب والحيوان، كما جاء تشريع الصوم عند اليهود والنصارى والمسلمين، مع إختلاف أنواع وأشكال الصوم بإختلاف المِلل والرسالات والمذاهب، ولكن الأكثر إشتراكاً بين الصائمين الإمتناع عن الطعام والشراب وهناك الصوم عن الإتصال الجنسي والكلام، ومنه ما يكون مشتركاً خلال وقت معين، ولعل الصوم والإمتناع عن الكلام هو أغرب أنواع الصيام، وهو منتشر لدى كثير من الأمم البدائية وغيرها، فقد ذكر الأستاذ سبنسر والأستاذ جيلين (B.Spencer and Gillan) في كتابهما عن سكان أستراليا الوسطى حالات كثيرة من هذا القبيل، منها أن المتوفى عنها زوجها يجب عليها أن تظل مدة طويلة، تبلغ أحيانًا عاماً كاملاً صائمة عن الكلام، ويظهر أن شيئًا من هذا كان متبعاً في ديانة اليهود، بدليل ذكر الله تعالى في القرآن الكريم على لسان مريم(ع): "﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ [مريم: 26].
هذه المقدمة تؤكد لنا أهمية الصوم في التقرب إلى الله تعالى المنعم المحب للبشر وحتى يمر علينا هذا الشهر المبارك بنفحات سماوية، يرتقي الإنسان المؤمن من خلالها إلى ملكوت الله علينا أن نميز بين الصوم المادي، الذي هو الإمتناع عن الطعام والشراب وغيرها من المفطرات الواردة في التشريع الاسلامي، وبين الصوم المعنوي الروحي الذي يهذّب النفس ويربيها.
وهنا، نذهب إلى خطبة النبي(ص) في إستقبال شهر رمضان حيث أن في كلامه المعاني الكثيرة التي تهذّب النفس وتربي الإنسان، وتهيّء ذاتها على لقاء الله وخدمة أخيه الانسان على مدار الأشهر الباقية من السنة.
فشهر رمضان هو محطّة يشحن فيها الانسان نفسه كي تبقى نظيفة وطاهرة على مدار العام، وحتى لا يكون الكلام مملاً سوف نضع عناوين نستفيد منها عملياً خلال شهر الصوم.
وهذه العناوين هي خلاصة مضمون خطبة النبي محمد(ص) في شهر رمضان وخلاصة الاحاديث والروايات الواردة عن النبي والأئمة(ع) حول شهر رمضان المبارك :
١-إن شهر رمضان المبارك هو محطة العودة إلى الذات ومنها الإنطلاق إلى ملكوت الله حتى تشملنا الرحمة والمغفرة والبركة يقول النبي(ص): "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ"، وهذه العناوين الثلاثة فيها نجاة الإنسان في الدنيا لأن البركات والفيوضات الإلهية إذا نزلت على العبد أوصلته نحو مدارك الرحمة فأصبح تحت رعاية الله تغفر له السلبيات والمخالفات لأنه عدل عن طريق الشر.
٢-إن أهمية شهر رمضان هو أن الإنسان يخرج من واقعه ليدخل في عالم الخير والصلاح المطلق وعليه أن لا يفوّت المصلحة خلال تلك الفترة يقول النبي(ص): "شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ"، فالمطلوب أن لا نخرج من أيامه وساعاته ولياليه إلا بأرقى المكاسب والمغانم التي تساعدنا على العيش بعزّة وكرامة حتى نلقى الله تعالى.
٣-من سرور العبد أن يكون مدعواً عند صاحب شأن وجاهٍ وسلطة. ونحن في شهر رمضان مدعوون إلى ضيافة الله! فلنتهيأ لتلك الإستضافة السماوية فلعلنا لا ندرك غيرها، يقول النبي(ص): "هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ"، نعم إنها كرامة لا ينالها إلا ذو حظ عظيم، وتتجلّى هذه الكرامة من خلال فعالية أفعال وتصرفات الإنسان في هذا الشهر، فالله أعطى أعظم الجوائز لأقل الأعمال يقول النبي(ص): "أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ، وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ"، وحتى نكون تحت هذه الرعاية الإلهية علينا أن نعمل ونسأل الله بقلوب نظيفة ملؤها المحبة "فَاسْأَلُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ، وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ، أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ، وَتِلاوَةِ كِتَابِهِ، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللَّهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ".
٤-أن يكون الصوم في شهر رمضان محطة لذكر الإنتقال من عالم الفناء إلى عالم البقاء يقول النبي(ص): "واذْكُرُوا بِجُوعِكُمْ وَعَطَشِكُمْ فِيهِ، جُوعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعَطَشَهُ".
٥-في شهر رمضان علينا أن ننشط التكافل الإجتماعي بين طبقات المجتمع وأن نسأل عن بعضنا البعض فيسأل الغني عن الفقير يقول النبي(ص): "مَنْ فَطَّرَ مِنْكُمْ صَائِماً مُؤْمِناً فِي هَذَا الشَّهْرِ، كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عِتْقُ نَسَمَةٍ، وَمَغْفِرَةٌ لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَلَيْسَ كُلُّنَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ (صلى الله عليه وآله): اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ"، فإن عمل الخير لا يكون بالكثرة إنما بصدق النية والهدف السامي من ذلك العمل.
٦-إن شهر رمضان هو شهر الأخلاق والأداب والمسامحة والغفران، شهر الخروج من الأنا والأنانية والدخول في حسن الأخلاق، وإكرام الأيتام وصلة الأرحام، يقول النبي(ص): "مَنْ حَسَّنَ مِنْكُمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ خُلُقَهُ، كَانَ لَهُ جَوَازاً عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الأَقْدَامُ، وَمَنْ خَفَّفَ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، خَفَّفَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِسَابَهُ، وَمَنْ كَفَّ فِيهِ شَرَّهُ، كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ غَضَبَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ أَكْرَمَ فِيهِ يَتِيماً، أَكْرَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ قَطَعَ فِيهِ رَحِمَهُ قَطَعَ اللَّهُ عَنْهُ رَحْمَتَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ".
أيها الأحبة إن الفرص تمر في حياة الإنسان كالسحاب وعلى الإنسان أن لا يضيع فرصة الخير، وفي شهر رمضان علينا أن نصوم الصوم الحقيقي المرتبط بتهذيب النفس والورع عن محارم الله تعالى حتى يكون شهر الحصاد ورزق الخير الموزع على مدار الأشهر الباقية.
فلنقف جميعاً لحظة تأمّل مع الذات في هذا الشهر ونرتقي جميعاً بنفوسنا وعقولنا وقلوبنا وأفكارنا حتى لا نخرج من ضيافة الله دون محصلة، وليكن شهر رمضان محطة للمسامحة والتسامح والتواصل والعتاب وصفاء النفوس.
أَيُّهَا النَّاسُ... إِنَّ أَبْوَابَ الْجِنَانِ فِي هَذَا الشَّهْرِ مُفَتَّحَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُغَلِّقَهَا عَنْكُمْ، وَأَبْوَابَ النِّيرَانِ مُغَلَّقَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُفَتِّحَهَا عَلَيْكُمْ، وَالشَّيَاطِينَ مَغْلُولَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُسَلِّطَهَا عَلَيْكُمْ.
والحمد الله رب العالمين
(الشيخ ربيع قبيسي)