انتهت الانتخابات النيابية اللبنانية إلى النتائج المعروفة. كررت الأحزاب والتيارات الكبيرة دعاياتها الانتخابية وفازت بفضل خطابها الذي لم يتغير منذ أعوام طويلة، بتأييد الناخبين الذين لم تبلغ نسبتهم نصف أعداد المسجلين على قوائم الاقتراع.
لم تتكلف القوى المشاركة في الائتلاف الحاكم عناء صوغ أفكار أو مشاريع جديدة مكتفية باللعب تحت سقوف الشعارات المضمونة الربح. «شد العصب» الطائفي والمذهبي والجهوي كان عنوان الحملات الانتخابية ومضمونها. عنوان يختصر خواء الانتخابات من كل مضمون باستثناء التخويف من الشريك المفترض في الوطن والالتزام الكامل بالمحاصصة الطائفية في الوقت ذاته. المعارك الشرسة دارت داخل الطوائف بين المتون والهوامش إذا صح التعبير، حيث أظهرت الأحزاب الرئيسة عدم استعدادها لأي نوع من الشراكة مع «طارئين» أو «دخلاء» على جنة البرلمان.
الاختراقات المعدودة للوائح الائتلاف الكبير، كانت من النوع الذي يؤكد القاعدة ولا ينقضها. مرشح فاز بالصدفة هنا ورابح يحمل لواء المجتمع المدني هناك، هما من التلوينات التي ستضفي قدراً من الترفيه المطلوب، على المجلس المقبل خصوصاً وأن أكثرية نواب الصدفة لا تاريخ حقيقياً لهم في العمل السياسي، بل ربما أن تاريخهم يقوم على درجة من الانتهازية واصطياد الفرص، على ما يتهمهم أخصامهم به.
بيد أن المهم في الانتخابات الأخيرة ليس افتقار أحزاب السلطة إلى خطاب جديد واعتمادها كلياً على آليات التحشيد الطائفية المعتادة في جذب الناخبين، بل أن المهم هو في غياب أي مضمون حقيقي لمن طرحوا أنفسهم بدائل عن القوى الحاكمة، واللجوء إلى مقولات فضفاضة لا معنى لها ولا قيمة عند أبسط اختبار. فما الذي تعنيه شعارات من مثل مكافحة الفساد أو تعزيز مؤسسات الدولة، كانت قاسماً مشتركاً في دعايات «البدائل» و«الأصائل» في آن واحد؟
افترض عدد من مرشحي المجتمع المدني (وهذا مفهوم آخر ابتُذِل في سوق الشعارات) أنهم إذا دعوا إلى بناء مؤسسات الدولة وتوفير الخدمات والضمانات الصحية والاجتماعية للمواطنين سيحصلون على تأييد الناخبين. فات المرشحون أن قسماً كبيراً من الناخبين، ينضوي في إطار شبكات الأمان التي أنشأتها الأحزاب على حساب الدولة، وأن الانتقال من شبكة أمان قائمة وفاعلة إلى أخرى لا تزال في عالم الغيب وفي تصورات مرشحين معارضين لقوى السلطة فحسب، لا يقل (انتقال كهذا) عن قفزة في الفراغ من أرض الخدمة الطائفية الواقعية إلى سراب الدولة المتخيلة. فلماذا يتخلى الناخب عن عصفور في اليد، مقابل مجرد ريشة طير (وليس عشرة عصافير) على الشجرة؟
الأمر ذاته يتكرر في شأن أخطر. فمن رَفَع سقف خطابه بالدعوة إلى تحمل الدولة ومؤسساتها مسؤولية الدفاع عن الوطن من دون شراكة المقاومة، أجيب عليه بالمنطق ذاته: لماذا نتخلى عن آلية دفاعية مجانية يؤمنها «حزب الله» للبنان كله، مقابل مؤسسات يقول كبار المسؤولين في السلطة أنها تحتاج إلى إمكانات غير متوفرة وقد لا تتوفر في مستقبل منظور، لحماية لبنان من العدوان الخارجي؟
ما اقترحه المعارضون لسلطة الأمر الواقع، لم يكن واقعياً. فالمسألة لا تقتصر على البرامج والوعود والبلاغة في شرح مثالب القوى الحاكمة، ولكنها تكمن في إمكان الانتقال من الشعار الانتخابي إلى تنفيذه العملي في وقت قليل وبما يُحسّن أوضاع الناخبين تحسيناً ملموساً. هذا ناهيك عن غياب كفاءة بعض المعترضين على توجيه نقد جدي لمن يطالبونهم بالتنحي عن مناصبهم وسلطاتهم. عليه، كانت نسبة الاقتراع متدنية والحماسة شبه معدومة، خارج الكتل الحزبية المنحازة سلفاً إلى قادتها.