تستفيد إسرائيل من الفوضى التي يُغرق دونالد ترامب العالم فيها، من أجل مواصلة مجازرها ضد الفلسطينيين مستغلة الانشغال الدولي والإقليمي بقراراته ضد إيران، بدءاً بانسحابه من الاتفاق النووي ومفاعيله، مروراً بالتباينات بينه وبين الاتحاد الأوروبي في هذا الشأن، وانتهاء بالعقوبات على القطاعات الاقتصادية الإيرانية وبالتالي على «حزب الله» في لبنان وسورية.
سواء خططت الإدارة الأميركية للفوضى أم لا فإن مفاعيل قراراتها تؤدي إليها. ومأساة الفلسطينيين الذين أعاد نقل السفارة الأميركية إلى القدس عشية النكبة، قضيتَهم إلى الواجهة بالدم والشهادة، باتت مثل مأساة السوريين الذين ارتكبت في حقهم المجازر على يد محور النظام السوري وروسيا وإيران وحلفائها من الميليشيات المتعددة الجنسية. ويستبعد أن تتوقف المجازر حتى لو نجح إخراج الكيماوي من الحرب الدائرة في بلاد الشام. البراميل المتفجرة والبطش الأعمى والاقتلاع الديموغرافي تبقى أدوات الإخضاع، وهي العناوين نفسها لتعاطي إسرائيل مع الفلسطينيين.
والمفارقة تكمن في أن العودة إلى سياسة العقوبات الموجعة لطهران، وأذرعها وخصوصا «حزب الله»، تقابلها استفادتها من الجموح الأميركي نحو تصفية القضية الفلسطينية، فتملأ الفراغ وتساهم في «أبوة» تظاهرات العودة من غزة، بينما الاعتراض العربي لا يصل إلى مسامع ترامب، وتتولى نيكي هايلي الهندية الأصول، تسخيفه بالحديث عن حق إسرائيل الموعود دينياً، بالقدس. هايلي هذه تريد من الفلسطينيين أن يقبلوا بتصفية هويتهم تماما كما جرت تصفية هويتها بقضاء «الكاوبوي» على قبائل جلدتها.
والمفارقة التي تضاعف عوامل الفوضى الدولية لخطوات ترامب، أن الدول العربية الرئيسة تعارض خطوات ترامب الفلسطينية، وتنسجم معه في خطواته الإيرانية، للحد من تمددها الإقليمي الذي مكّنها الاتفاق على النووي من ترسيخه وتوسيعه.
في انتظار إفراج واشنطن عن أفكار «الصفقة الكبرى» التي تعد بها على الصعيد الفلسطيني، فإن مؤداها اشتعال الأراضي المحتلة حكماً، بعد إعلان «أبدية» القدس عاصمة الدولة العبرية. وليس مجافياً للمنطق توقع تصاعد التطرف الداعشي الممنهج في المنطقة، وسعي إيران إلى التلاعب به والإفادة منه كما فعلت على الساحتين العراقية والسورية في السنوات الماضية، ضد الأميركيين وضد الدول العربية المناوئة لخططها زعزعة استقرارها. فخوض طهران حروبها بالواسطة عبر اليمنيين الحوثيين، وعبر فئات خليجية والميليشيات العراقية، وعبر «حزب الله» في لبنان وسورية، وأخيراً في بوليساريو... قد لا يثنيها عن دفع التطرف «الداعشي» و «القاعدة» للضغط على الجبهة الدولية الإقليمية الواسعة ضدها.
توالي العقوبات على طهران وضعها في الموقع الدفاعي، ولا يلغي لجوءها إلى الوسائل الشيطانية للحد من خسائرها وحفظ موقعها التفاوضي. هي اضطرت إلى التراجع عن تهديداتها حيال انسحاب ترامب من الاتفاق على النووي، بخطوة مماثلة، وبات قادتها يؤكدون «البقاء فيه طالما أن له فائدة». والتوتر الذي يقابلون به الإجراءات الأميركية والخليجية ضدها وضد «حزب الله» لا يدل على صحة الاطمئنان إلى قدرة محور المقاومة على مواجهة الضغوط. دخلت المنطقة مرحلة جديدة من المواجهات التي اخترق فيها كل الفرقاء الخطوط الحمر: من استخدام الكيماوي والرد الأميركي الفرنسي البريطاني عليه، إلى نقض اتفاقات التهدئة في سورية، إلى القصف الإسرائيلي المباشر للمواقع الإيرانية فيها، والرد الإيراني- السوري بقصف الجولان، تحتاج إيران إلى خوض مغامرات كبرى قد تفرض الحسابات الروسية نهيها عنها، يوجب رد الفعل الغربي عليها التردد في الإقدام عليها، فبقدر حاجة موسكو إلى تمتين تعاونها مع طهران في وجه استمرار العقوبات عليها هي الأخرى، تضطر إلى خطوات تحول دون اندلاع مواجهة كبرى في المنطقة، تطيح ما أنجزته، لمصلحة حفظ موقعها الأول الطامح لإلغاء صيغة جنيف للحل السوري بأسلوب القضم والاستيعاب. وهذا قادها إلى تعليق إرسال صواريخ 300- إس إلى دمشق، واستبدال إرسال بحريتها وصواريخ «كاليبر» إلى المتوسط به.
يتوقع أن تتصاعد العقوبات الأميركية والخليجية على طهران والحزب، في ظل مراهنة ترامب على تأثيرها على الاقتصاد الإيراني، ومن دلالاته التراجع الكبير لسعر صرف العملة، وانسحاب شركات أوروبية تجارية ونفطية وصناعية من السوق الإيراني، كانت عززت وجودها بعد الاتفاق النووي. فدول أوروبا على رغم خلافها مع ترامب، أبلغت شركاتها عجزها عن حمايتها. والعقوبات تستهدف مسارب التهرب من الحصار عبر دول المنطقة في الخليج والعراق ولبنان وسورية، والأخيرة بات اقتصادها مربوطاً بطهران، يصيبها ما يستهدف «استثمارات» الأخيرة فيها.
تقف طهران بين حد مقاومة الضغوط بالانفتاح على أوروبا، تمهيداً للتفاوض مثل بيونغ يانغ، وحد تفجير المواجهة العسكرية والأمنية مع واشنطن وحلفائها العرب.