في مشهديّة لقاء «بيت الوسط» يمكن التفكير بقاعدتين: الأولى هي أنّ «للنصر آباء كثيرين لكنّ الهزيمة يتيمة»، والثانية هي أنّ الناس يقفون دائماً مع القوي لا مع الضعيف.
في الانتخابات، ضاعف جعجع حجم كتلته النيابية، فيما خرج الحريري بأقل من طموحاته، خصوصاً في العاصمة وبعض دوائر الجنوب والبقاع.
منطقي بعد هذه النتيجة أن يراجع الحريري حساباته: «الاعتراف» بدور وازنٍ لجعجع… بعد إنكارٍ طويل ومرير، بدأ في خريف 2016 (إتفاق عون- الحريري الرئاسي)، واستمرّ في خريف 2017 (أزمة الحريري في السعودية)، وتخلّلته في مجلس الوزراء محطات غرام مع الوزير جبران باسيل وانتقام من جعجع.
وفي السياسة، لم يعد الحريري يرى ضرورةً لوضع كل البَيض في سلّة عون وباسيل وحدهما، فيما هما يقومان بأخذها إلى «حزب الله». واكتشف الحريري أن لا خسارة في إقامة حدّ أدنى من التوازن بين القوى المسيحية.
وهنا تجدر العودة إلى ظروف الصفقة مع عون، في نهايات 2016. فقد كان الحريري في المنفى آنذاك، بمعنى وجوده خارج البلد وبالمعنى السياسي أيضاً. واكتشف أنّ استمرار التزامه خط 14 آذار أصبح عبثياً ولن يعيده إلى البلد ولن يوصله إلى رئاسة الحكومة. فقرّر إبرام تسوية مع الأقوياء، أي مع «حزب الله»، ولكن بطريقة غير مباشرة.
كان الحريري في حاجة إلى وسيط، أو إلى «طبقة عازلة» تمنع الاحتكاك المباشر والموجع بينه وبين «حزب الله»، فكانت صفقة المكاسب المشتركة بينه وبين عون، والوكيلان هما باسيل ونادر الحريري. وربما اكتشف لاحقاً أنّ تعقيدات طرأت على ظروف هذه الوكالة ودور الوكيل.
طبيعي أن يصاب جعجع آنذاك بصدمة «انقلاب» الحريري وإبرامه الصفقة مع عون: «لي رئاسة الجمهورية ولك رئاسة الحكومة». وهو اضطر إلى عقد صفقةٍ مماثلة مع عون، تمّت تسميتُها «تفاهم معراب».
منذ انطلاق العهد، عاش جعجع وحيداً في السياسة، وعانى وحيداً في مجلس الوزراء. وكانت الخيارات أمامه محصورة بثلاثة:
1 - أن يبقى في الحكومة شاهد زور، وهذا خيار يرفضه بقدر الإمكان.
2 - أن يخرج من الحكومة ويعارضها من الخارج على طريقة النائب سامي الجميل. وهو خيار لا يراه مجدياً سياسياً.
3 - أن يبقى معترضاً من داخل الحكومة، مستقوياً بتقاطع المواقف أو المصالح بينه وبين القوى الأخرى، خارج ثنائي الحريري- باسيل، كالرئيس نبيه بري و»حزب الله» والنائب وليد جنبلاط. وهذا الخيار بدا له الأكثر واقعية.
خلال المرحلة المقبلة، سيبقى جعجع في هذا الخيار الذي أثمر صموداً في السياسة ومكاسب في الانتخابات. وسيستفيد من «فائض القوة» الانتخابي ليقنع الحريري بتشكيل توازنٍ سياسيّ يحدّ من الجموح المنتظر في اتّجاهين:
- جموح «التيار» إلى هامش أكبر في الملفات الداخلية.
- جموح «حزب الله» إلى هامش أكبر في قرارات الأمن والسياسة، ولاسيما دور لبنان الإقليمي.
مشكلة الحريري أنه وافق في صفقة 2016 على أن يكون شريكاً مع «التيار» في جموحه، كما قرّر السكوت على جموح «حزب الله» لاقتناعه بأنّ من العبثي الاستمرار في اللعب إلى ما لا نهاية بعناوين السلاح والأمن والتورّط في الحروب الخارجية. فكل رياح الشرق الأوسط جرت بما لا تشتهي سفن 14 آذار.
واليوم، سيكون الحريري أمام استحقاق العودة إلى رئاسة الحكومة. وهذا يعني أنه أمام استحقاق التمسّك بالتسوية أو رفضها. وهذا وضع جعجع أيضاً. والأرجح أنّ الحريري سيستمرّ في التسوية، لأنّ الخيارات المطروحة عليه اليوم ليست أفضل من خياراته في 2016.
لذلك، هو وجعجع يدركان أنّ الخروج من التسوية يستتبع خروجهما من الحكومة، وإن كانت تتّصف بمقدار ضعيف وشكلي من التوازن. ولا مصلحة لهما في إخلاء الساحة لحكومة يرئسها أحد حلفاء «حزب الله» الكثر، المنتظرين أدوارهم.
فعلى الأقل، سمحت مشاركة الحريري و»القوات» في الحكومة للطرفين بأن يكونا في السلطة، ومنحتهما تمثيلاً وازناً في الحكومة وقدرة على صياغة قانون الانتخاب وقطف ثماره.
وكان لافتاً أنّ عون، ومن باب الاحتياط، رمى باكراً في وجه الجميع كرةً اسمها «حكومة الغالبية»، إذا تعذّر قيام حكومة الوحدة الوطنية. وفي الترجمة السياسية، يعني ذلك: إذا كان أحد يفكر في طرح الشروط، فنحن سنتركه ونمشي!
يعني ذلك أيضاً أنّ على الجميع أن يستيقظ من حسابات الربح والخسارة «الصغيرة»، بين الكتل والزعامات، وينظر إلى النتيجة الكبيرة: الغالبية الحقيقية، لا الوهمية، هي غالبية «حزب الله» وحلفائه… والباقي تفاصيل.
وهنا ينبغي التفكيرُ مجدّداً بمشكلة الحريري وجعجع من أساسها: رئيس الحكومة سيبقى مرتبطاً بباسيل، وسيشاركه المكاسب في مجلس الوزراء، كما اقتضت الصفقة. وهذا ما جرى في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء في شكل فاضح. وليس على «القوات» إلّا أن تختار: تعارض أو تسكت على مضض إذا لم تكن راغبة في مغادرة «جنّة الحكومة» أو في دخول «جنّة المكاسب».
إذاً، أفراح جعجع- الحريري لن تعيد الرجلين إلى تحالفهما القديم، ولو أنهما مقبلان على مرحلة استحقاقات سياسية قاسية تفرض عودة التحالف، أبرزها الانفتاح المنشود بين بيروت ودمشق على أرفع المستويات وأكثرها عمقاً، والذي سيجد الحريري نفسَه مضطراً إلى أن يقول فيه كلمة قاطعة ولها مترتّباتها. وفي الدرجة الثانية، على جعجع أن يقول كلمة مماثلة.
وبناءًَ على مواقف الحريري وجعجع، يتقرّر مصير الحكومة المقبلة. لكنّ مخاض ولادة هذه الحكومة سيكون عسيراً، والوجع سيصيب أطرافاً سياسية دون أخرى!