أيّاً كانت الظروفُ التي حكمت الانتخاباتِ النيابية ونتائجَها، يجد أهل الحكم أنفسَهم أمام مرحلة من «التعاون الإجباري» بمعزل عمّا شهدته تلك المرحلة من مواقف حادة اعتُبرت «من عدة الشغل». أما وقد فُتحت صفحة جديدة عشية الإستحقاقات الدستورية بـ «طيبة خاطر» أو بعكس ذلك، فقد طرح السؤال هل تنجح عملية الترميم لعبور المرحلة بأقلّ الخسائر؟ وهل هي نتيجة إقتناع؟ أم أنها خطواتٌ إجبارية؟
بعيداً من بعض التفسيرات التي ربطت بين حدة المواقف التي سبقت العملية الانتخابية والمواقف التصعيدية التى أثارت أجواء من التشنّج بين بعض القيادات السياسية والحزبية، فإنّ ما شهدته الأيام الأخيرة من محاولات اتّخذت شكلَ ترميم العلاقات البينية بين أهل الحكم تبرّر الإتّهامات بتورّط البعض منهم في عملية «توزيع ادوار» أثمرت نوعاً من تبادل «الخدمات الانتخابية» لمجرد أنها ادّت الى شدّ العصب الانتخابي في اتّجاه إعادة تشكيل القوى الكبرى على طرفي نقيض الحملات الإنتخابية بهدف تكبير الأحجام واستيعاب «المعتدلين» و»المستقلين» وتسهيل «بلع» البعض منهم.
وعلى قاعدة «أنّ الغايات تبرّر كل الوسائل» فقد حصل ما حصل، ومَن لم تكن له القدرة على تأدية الأدوار التي اقتضتها المرحلة على خلفيات التشنّج القائم نتيجة التداخل بين ما هو داخلي وإقليمي، فقد فشل في اجتذاب الناخبين القلائل الذين قصدوا صناديق الإقتراع.
وزاد في الطين بلّة اعتكاف كثر عن ممارسة حقهم في الإنتخاب، فسقطت كل الطروحات، وتحديداً تلك التي تحدّثت الى العقول بدلاً من الغرائز. كذلك سقطت على الطريق كل المشاريع الجدّية ذات الصدقية العالية وحلّت محلّها الوعود والمصالح والخدمات الآنية العابرة. فالمعركة الانتخابية اقتضت اعتماد «الأسلوب الديماغوجي» باعتلاء المنابر وكيل الإتّهامات أيّاً كانت النتائج المترتبة عليها فالجميع يدرك أنّ هناك سقوفاً لا يمكن أحدٌ تجاوزها.
على هذه الخلفيات، فقد قادت «المصالحات» التي شهدها بعض المقار الرسمية والحزبية الى بروز محاولة جدّية لتغيير الصورة التي عكستها الحماوة الإنتخابية، وأخرى لتجاوز الاتّهامات الكبيرة المتبادلة بالتخوين والتعاون مع الخارج والاستقواء به، بغية تسهيل العبور الى المحطات المقبلة التشريعية منها والحكومية على رغم الأفخاخ المنتظرة على الطريق.
هذا ما أوحت به حصيلة اللقاءات الأخيرة، فالرئيس نبيه بري تحدث أمس الأول من منصّة قصر بعبدا عن «صفحة جديدة أو متجدّدة» مع رئيس الجمهورية مع وعد بتجاوز ما شهدته العلاقات بينه ورئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل، في وقت شهد «بيت الوسط» اللقاء الذي طال انتظاره بين الرئيس الحريري ورئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع واعتبار أنّ ما شاب العلاقة بينهما منذ «استقالة الرياض» الى الأمس القريب من «الماضي البعيد» هذا عدا عن الأجواء التي توحي بمزيد من اللقاءات الإستثنائية التي يجري التحضير لها على أبواب المحطات الدستورية المقبلة.
ثمّة مَن يعتقد، أنّ بعضاً من اللقاءات المنتظرة لن يخرج عن نطاق رفع العتب، فإذا كان الهدف تسهيل ولادة الحكومة العتيدة، فإنّ دونها عقبات أساسية أقلّها أنّ حكومة ثلاثينية قد لا ترضي «جشع» البعض الى الإستيلاء على الحقائب السيادية والخدماتية وإصرارالبعض الآخر على التمسّك بما تحقّق له في المرحلة السابقة وليس من السهل التخلّي عنها وهو ما قد يقود الى ترجيح كفّة البدائل المطروحة. فرئيس الجمهورية الذي «يُمنّن» النفس بحكومة «العهد الأولى» لن يكون متفرِّجاً تجاه ما هو مرتقب من مواقف ومطالب.
وفي المقابل، وإن شعر البعض بـ«ليونةٍ» ما في مواقف بري فلا يظنّن أنه سيتساهل في تجاوز الخطوط الحمر التي رسمها الثنائي الشيعي، وأنّ على الجميع الإيفاء بالتزاماتهم في مرحلة إعادة انتخابه رئيساً لمجلس النواب بالإجماع الذي يرغب به قبل أن يكون متساهلاً في المحطات التي تلي هذا الإستحقاق الأول. ومَن يعتقد أنّ الرئيس سعد الحريري قد يكون متساهلاً في بعض المواقف فهو مخطئ. فما قدّمه من «عرض للقوة» داخل بيت «التيار الأزرق» بات مثالاً يحتذى مستقبلاً في «البيت الحكومي».
ومَن يعتقد أنّ طروحات «القوات اللبنانية» التي استندت الى الحجم الجديد لكتلتها النيابية يمكن التراجع عنها فهو مخطئ أيضاً. فقد تحدث رئيسهاأمس الأول في «بيت الوسط» عن معادلات جديدة لمجرد الحديث عن أسلوب وطاقم وزاري جديدَين لا بد من أن يتمسّك بهما ولا يحول دونها سوى «الحصة الوازنة» والتي يُعتقد أنها ستكون «النص بالنص» بينه وبين «التيار الوطني الحر»، وربما بالتوازي مع تيار «المستقبل» فالكتل النيابية الثلاث متقاربة في أعدادها ومَن يرغب بقراءة الأرقام بطريقة مختلفة وغير عادلة لن يجدَ الصدى الذي يرغب به.
وقياساً على هذه المعادلات لا يكفي القول أنّ الظروف الإقليمية والدولية تحتّم على اللبنانيين الإسراع في التشكيلة الحكومية وتجاوز كل العِقد المنتظرة، فلم تُقفل كل المصالحات التي جرت وتلك المتوقعة مكامن النزف المرتقبة وقد لا تأتي «الخطوات المخمليّة» المقبلة بما هو منتظر منها من بشائر حلول.
فالتعقيدات أكبر من قدرة أهل الحكم على تجاوزها ومَن يراهن على إمكان عبور المراحل المقبلة بالشعارات والحديث عن المخاطر التي تعيشها المنطقة والخوف من انعكاساتها على الداخل اللبناني مجرد «وجهة نظر» لدى بعض القوى التي ستتمسّك بمطالب قد تكون «تعجيزية» وليس أقلّها توسيع المواجهة على الحقائب السيادية والخدماتية والتي أضيف اليها تلك التي عشّش فيها الفساد وتلك المعنيّة بشؤون النازحين السوريين.