بمعزل عن معدّل الصواب والخطأ في كل من هذه التفسيرات، يبدو انّ عاملاً آخر وأساسياً سمح لـ«القوات» بتوسيع حجم كتلتها، بعدما أحسن رئيسها سمير جعجع توظيف هذا العامل في الانتخابات النيابية: إنه مفعول المصالحة بين العماد ميشال عون وجعجع.
قبل تفاهم معراب الشهير، كانت صورة جعجع «محروقة» لدى جزء كبير من المسيحيين، ربطاً بدوره في الحرب الاهلية والنزاعات المسيحية، ولا سيما منها نزاعه الدموي مع العماد ميشال عون (عندما كان قائداً للجيش ورئيساً للحكومة العسكرية).
هذا الإرث الثقيل او التاريخ القاتم ظلّ يلاحق جعجع، حتى بعد خروجه من السجن عام 2005. لم ينفع اعتقاله ثم الافراج عنه في «ترميم» ماضيه ولا في كسب تعاطف مسيحي واسع معه خارج مساحة مُناصري «القوات»، على رغم سعيه الى ترويج فكرة انه كان ضحية نظام أمني لبناني - سوري، وانه كان سجيناً سياسياً فُبرِكَت له الملفات، لمعاقبته على تمسّكه بخياراته وما هو مقتنع به.
بعد عودته الى الحياة السياسية، ظلت لعنة الماضي تطارد جعجع، فيما كان خصمه اللدود آنذاك ميشال عون يتمدّد في الساحة المسيحية على أنقاض صورة رئيس «القوات»، مُستثمراً نقاط ضعفها لتثبيت زعامته.
ومن كان يخرج من «التيار الوطني الحر» في تلك المرحلة، تفادى الانضمام الى «القوات» أو مناصرتها ولو من بُعد، تحت تأثير هذا التراكم. وحتى «المحايدون» في الشارع المسيحي، وهم أكثرية، كانوا يميلون في غالبيتهم الى دعم عون عند الاستحقاقات الكبرى، من قبيل الانتخابات.
بقي جعجع في «قفص الاتهام»، وكأنّ محاكمته استمرت بعد إطلاقه. لم يكن سهلاً عليه إقناع الآخرين بأنه تغيّر وبأنّ قوانين السلم تختلف عن تلك التي تسود في الحرب. ظل الوضع على هذا المنوال الى ان حصل التحوّل الكبير مع إنجاز المصالحة بينه وبين عون، الذي زار معراب للمرة الاولى لتوقيع التفاهم في احتفالية شهيرة.
صحيح انّ جعجع اتخذ قراراً صعباً بدعم ترشيح عون الى رئاسة الجمهورية، لكنه حصل في المقابل على «براءة» انتظرها طويلاً. منذ تلك اللحظة، بدأ رئيس «القوات» التأسيس لمرحلة جديدة تعتمد على الاستثمار في «اتفاق معراب»، وهو الذي تخلّص من أعباء كثيرة واستطاع انتزاع «سجل عدلي» نظيف بشحطة قلم، بعدما طَوت المصالحة كل ما سبقها.
والأهم بالنسبة الى جعجع انّ الرأي العام المسيحي، لا سيما منه المُحايد او الرمادي، صار منذ ذلك الحين متآلفاً مع صورة «القوات» وقائدها بعد 30 عاماً من «شيطنتها». لقد حصل عون على الرئاسة، لكنّ جعجع نال فرصة ثانية في الشارع المسيحي العريض.
بهذا المعنى، خاض جعجع الانتخابات النيابية مُستنداً في جانب من حساباته الى «عائدات» لحظة المصالحة التي فتحت أمامه أبواباً كانت مقفلة في السابق، بحيث بات يوجد بالحد الأدنى نوع من «القبول» له في بيئات مسيحية عُرفت بنفورها منه. وما ساعده، أنه استخدم حضور «القوات» في الحكومة لتعزيز رصيده، محاولاً تقديم نموذج مختلف في السلطة من خلال سلوك وزرائه وإصراره على رفع شعار مكافحة الفساد.
وعندما آن أوان الاختبار الانتخابي، بَدا انّ جعجع نجح في «تَسييل» فلسفة المصالحة مع عون أصواتاً في صناديق الاقتراع، من خلال استمالة شريحة جديدة من الناخبين، خصوصاً في أوساط «البراغماتيين»، محاولاً الفصل بين علاقته بعون وخلافه مع رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل.
ويؤكد مصدر بارز في «القوات» انّ جعجع يدرك حساسية معظم القاعدة الشعبية المسيحية حيال المصالحة وحرصها الشديد عليها، وهو التقطَ هذا النبض ويتصرّف على أساسه.
ويشدد المصدر على «انّ القطيع يقود الراعي في هذا الملف وليس العكس»، لافتاً الى انّ جعجع يعتبر انّ شريكه الاساسي في التفاهم هو عون شخصياً وليس أيّ أحد آخر. ويرى انّ وزير الخارجية يحاول ان يستعمل خلافه مع «القوات»، لاسترضاء «حزب الله» وللتغطية على بعض الامور. ويضيف: «نحن نميّز بين المصالحة وباسيل، وكذلك بين عون وباسيل».