ربما يستغرب البعض هذا العنوان، لكن إذا أخذنا، من بين أمور عدة، انتخابات جبيل، نجد أن من حسنات القانون الجديد النادرة، أنه أظهر لنا بفضل الصوت التفضيلي والحاصل الانتخابي أن السكان الشيعة هناك صوتوا بغالبية كبيرة لمرشحهم المستورد ورجل الدين فوق ذلك، ضد إرادة الناخبين مجتمعين. سمحت هذه الآليات بعدم نجاحه رغماً عن سكان المنطقة. فما الذي يدعو حزباً يحكم لبنان الى مثل هذا السلوك المستفز والمعادي لشعور المواطنين الذي يزعم انه يعمل لحمايتهم وتحريرهم من كل سوء!!
تم تداول منشور في وسائط الاتصال الاجتماعي، كتب صاحبها: "كنا حاكمينكم بالسلاح، الآن بالصرماية".
غريب هذا الاستفزاز، سواء على المستوى الافتراضي او على المستوى الواقعي كما شاهدنا عندما انفلتت مئات الموتوسيكلات على الأحياء البيروتية وبعض المناطق الاخرى كزحلة، والتي تعد خارج الوجود الجغرافي المحمي والممنوع على "الغرباء" عن البيئة الحاضنة؛ معلنين تشييعها!! الأمر الذي تسبب ببعض اشتباكات مع شباب تلك الاحياء. في وقت تدعو قياداتهم الى نبذ وإدانة الخطاب المذهبي والتحريضي!!
السؤال: ما الذي يدعو أطرافاً رابحين في الانتخابات مع أكثرية تمكنهم من استخدام الثلث المعطل في البرلمان القادم ومن التحكم بمقادير البلد "شرعياً"!! إلى غزو المدينة التي نجح لهم فيها نائبان وبعض الحلفاء!! هل للقول إن نوابهم في البرلمان لا يكفون لتمثيل صورتهم على أكمل وجه؟ وإن لعملتهم وجهين: نواب وزعران؟
من المفروض أن من لديه القدرة على التحكم فعلياً بمصير لبنان من دون الحاجة الى التمثيل البرلماني، اذ يكفيه سلاحه، ما عاد بحاجة الى تلك العراضات؛ الا اذا كان يشعر بالقلق!!
ومن العلامات على ذلك، انه بعدما وجه سلاحه لسكان بيروت وأدّبهم في العام 2008، كان يكفيه في العام 2011 مجرد إنزال رمزي للقمصان السود في الصباح الباكر ليقلب المعادلة ويبدل الأقلية بالأكثرية. صاروا يحتاجون الآن الى إنزال شبيبة الموتوسيكلات للتأكيد على هذه الهيمنة وإبرازها!! فهل بدأوا يعانون مرارة رفض الآخرين لهم فأرادوا الانتقام وزيادة الطين بلة؟
ثم إنها المرة الاولى التي لم تعد فيها الفتوى وحدها تكفي لتجييش الجمهور المقاوم بل احتاج الأمر الى عدة شغل متعددة الأسلحة، من الاعتداء على المنافسين وتخويفهم وتخوينهم الى التجييش عبر تعبئة مذهبية فاقعة وإخراج الحسين والأموات من قبورهم عبر خطاب تحريضي مذهبي سافر واضطرار السيد نصرالله، الذي كان فيما مضى زعيماً محبوباً في العالم العربي كله، الى النزول الى الزواريب والزنقات والى استخدام جميع مهاراته الخطابية للتعبئة ولشد العصب المذهبي.
لكن لا شك في ان عراضاتهم تهدف أيضاً الى ممارسة الضغط على رئيس الحكومة، وتصعيب مهمته في التكليف وفي تأليف الحكومة، إذ بعدما تم تعيين رئيس مجلس النواب مسبقاً من قبلهم، أوحي أن رئاسة الحكومة غير مضمونة، كما سبق وفهم من التسوية التي حصلت وسميت بصفقة الرئاسة؛ كما لحفظ حق الابتزاز فيرما يتعلق باستعادة العلاقة مع النظام السوري.
إضافة الى إفهام أميركا والعالم الغربي أن لبنان بات في قبضتنا، وذلك ربطاً مع انسحاب ترامب من الاتفاق النووي ومع ما يجري في الإقليم من توتر متصاعد بين إسرائيل وايران، التي لا يبدو انها بوارد حرب مباشرة مع اسرائيل تفضح قدراتها العسكرية الحقيقية، بل التخوف الآن من احتمال ان تضغط على "حزب الله" للقيام بالمهمة عنها ولنرَ حينها ماذا ستفيد "الشعب المقاوم" ثلاثيته الذهبية وهيمنته على البرلمان؛ كما ننتظر حينها أن يقنعنا حلفاء الحزب ان سلاحه لا يشكل خطرا على لبنان ولا علاقة له بأمن المواطن ومعيشته واقتصاده!!
إن نتائج الانتخابات، بالرغم من انها كانت منتظرة بعد اقرار قانون الانتخاب المشوه واللقيط، لكنها مع ذلك حملت رسائل رمزية عدة؛ وبعضها يفسر هجمة الزعران الثنائية على بيروت وغيرها.
أول ما عبرت عنه نسبة الاقتراع، التي انخفضت عن الانتخابات الماضية، اعتراضاً سلبياً من المواطنين اللبنانيين على الطبقة السياسية بمجملها، شملت الجميع بمن فيهم المجتمع المدني المشتت والمخترق والبيئة الشيعية، التي ستعاني إضافة الى ذلك من مواجهة بدأت تبرز كأصوات تشير الى غلبة وزن "حزب الله" (وتمثيله 60% من الشيعة) مع ما قد يستتبع من إعادة تموضع بين الحزب والحركة؛ وربما ننتظر مناوشات وتنازع مكاسب في الدولة اللبنانية في ظل استعداد "حزب الله" إعادة تموضعه لبنانياً والمطالبة بحصته الوازنة من الجميع، بمن فيهم "أمل".
إن نسبة الاقتراع المتدنية حتى في البيئة الشيعية لن تغطي عليها رغم نسبة الاقتراع "التصاعدية" التي أبلغنا اياها السيد نصرالله والتي ظلت تتزايد حتى اليوم التالي للانتخابات. وبالرغم من اعتبار وزير الداخلية، المستغرب، أنّ اللبنانيين يتحملون مسؤولية أي أخطاء قد تحصل في المستقبل لأنهم امتنعوا عن التصويت! وفي ذلك تنصل مسبق من المسؤولية وتحميل السلطة للشعب اللبناني مسؤولية ارتكاباتها القادمة!!
تشير نسبة التصويت المنخفضة للمواطن اللبناني ايضاً إلى انه محبط فاقد للثقة ورافض للطبقة السياسية التي رغم مشاركتها بشقيها التنفيذي والتشريعي – الذي لم يشرع - في ايصال البلد الى ما هو عليه، رشحت نفسها تحت شعار محاربة الفساد وتحسين أوضاعه ومعالجة الاقتصاد!! وفق قانون لقيط نزعت عنه صفة النسبية لأنه لم يفرض لوائح متجانسة لها عنوان او خط سياسي واضح، اضافة الى اللوائح المقفلة التي ضمت الاعداء والاصدقاء في خلطة عجيبة مع صوت تفضيلي مذهبي كل ذلك حرم الناخب حرية الاختيار فامتنع عن المشاركة بالتزوير واختار الامتناع.
كما أن هذه الانتخابات التي تعد من الأسوأ في تاريخ لبنان، أعطت التبرير الكافي لامتناع المواطنين عن المشاركة الكثيفة؛ فالمال السياسي الذي استخدم لشراء الاصوات بلغ مدى غير مسبوق واتهم به معظم الاطراف بعضهم بعضاً وعلناً؛ وجميعنا شاهدنا الاشرطة التي انتشرت على كافة وسائط الاتصال والفيديوات المسربة وبوسائل عدة تؤكد عدم نزاهة الانتخابات بدءاً بالتزوير واستبدال الصناديق ورمي بعض منها واقتراع المتوفين على ما اشارت "النهار"، كما التمديد الذي حصل في بعض القرى البقاعية واستجلاب سوريين مجنسين مما جعل النتائج تتغير وتتصاعد مع تقدم الليل، بحيث تغير الرقم الرسمي الذي اعلن عنه لنسبة الاقتراع عند إقفال الصناديق من 48% الى 50،4% في اليوم التالي. أما السيد حسن نصرالله فأعلن ان النسبة هي63%. وهذا بحسب الاوساط القريبة من ماكينة المرشح يحيى شمص، الذي تقدم بالطعن لانه حصل تزوير في عدد اصوات المقترعين للائحته ويحق لها بـ 3 مقاعد وليس اثنين.
ومع عدم تمكن المعارضة الشيعية من إيصال أي مرشح، إلا انها المرة الاولى التي يجرؤ فيها مرشحون على خوض الانتخابات في وجه "حزب الله" تحديداً؛ هذا بالإضافة الى الخسارة المعنوية لـ "حزب الله" الذي شكلها فشل مرشحه في جبيل، مع ان الناجح "المستقل" فيها ذهب لتقديم فروض الطاعة للرئيس بري.
اذاً هناك عدد من المؤشرات التي ينبغي ان تشعر الحزب بعدم الاطمئنان، وربما من هنا عراضاته التي تزيد في احتقان في الشارع اللبناني المتصاعد مع كل استفزاز ما يزيد الشعور بالغبن وينتج المزيد من الضغينة، فحذار الوقوع في مطب النزاع الأهلي إذا ظلت هذه الممارسات على حالها.
ونرجو أن يكون المجتمع المدني قد تعلم الدرس كي لا يتشتت كما فعل وان يتعلم التواضع والتعاون وتقديم المصلحة الوطنية على المصالح الضيقة والنرجسيات الفائضة. إن النجاح في الوصول الى السلطة للتغيير من فوق لا يتم الا بالتهيئة المسبقة وبالعمل على التغيير من تحت.
إن التصدي للمشاكل الصغيرة في البيئة التي توجد فيها المعارضات والعمل على محاربة الفساد عبر ملفات صغيرة وجزئية في كل منطقة على غرار ما يحصل في عين دارة مع الكسارات هو بعض المطلوب.