لم يتوان دونالد ترامب عن المضي قدمًا في سياسته الحمائية والتي تمثّلت بفرض رسوم جمركية على العديد من البضائع التي تستوردها الولايات المُتحدة الأميركية من الخارج، مما يدفع بالمُستهلك الأميركي إلى التوجّه نحو البضائع الأميركية. هذا الأمر أخذ أبعادًا كبيرة مع فرض رسوم على الحديد والألومينيوم مما سيؤدّي حكمًا إلى حرب تجارية عالمية لن تسلم منها العملات.
هذا الواقع فرضه ترامب بدعم قوي من دعاة القومية الإقتصادية رغم معارضة المدافعين عن العقيدة الليبيرالية في البيت الأبيض، مما دفع المستثمرين إلى الحذر في الأسواق المالية.
لكن مُخطّط ترامب في سياسته الحمائية أخذ أبعادًا جديدة مع تسخير البعد السياسي في خدمة الإقتصاد. فالولايات المُتحدة الأميركية تنظر إلى دعم شركاتها ليس فقط من خلال تحفيز الطلب الداخلي بل الخارجي أيضًا، لذا آتى الملف الإيراني ليخدم مخطط ترامب.
العقوبات التي كانت مفروضة على إيران في الفترة التي سبقت الإتفاق على البرنامج النووي الإيراني، كانت عقوبات دولية مفروضة من قبل مجلس الأمن بحجّة قانونية، وبالتالي كانت كل دول العالم تقريبًا مُلتزمة بهذا القرار (بإستثناء بعض الدول التي تُعارض السياسة الأميركية).
وبعد الإتفاق على النووي الإيراني في آب العام 2015، رفعت كل الدوّل العقوبات عن إيران أقلّه قانونيًا ولكن فعليًا لم تُفعّل العديد من هذه البلدان العلاقات الإقتصادية مع إيران تحت ضغط أميركي – إسرائيلي – خليجي.
التجارب التي قامت بها طهران على الصواريخ البالستية أعطت الأميركيين بابا قانونيا لإعادة فرض عقوبات على إيران، كما أن حزب الله يُشكّل بابًا قانونيًا سهلًا للولايات المُتحدة الأميركية لفرض عقوبات على أشخاص ومؤسسات إيرانية. ويُمكن القول أن كل العقوبات المفروضة على حزب الله هدفها الأول الوصول إلى إيران.
الإنسحاب الأميركي من الإتفاق على البرنامج النووي الإيراني، يُعطي الفرصة للولايات المُتحدة الأميركية لإعادة فرض عقوبات على إيران بحجّة هذا البرنامج خصوصًا إذا ما كانت ردّة الفعل الإيرانية إستعادة تخصيب اليورانيوم. لكن فرض عقوبات ثنائية من قبل الولايات المُتحدة الأميركية على إيران مُكلفة وتُساعد الشركات الأوروبية والصينية والروسية وهي الأكثر إستثمارًا في إيران منذ العام 2015.
لذا كان قرار واشنطن بفرض عقوبات على إيران متزامنًا مع تحذير الشركات العالمية التي تتعامل مع إيران بوقف تعاملها مع إيران خلال فترة 80 إلى 120 يوما، تحت طائلة منعها من التعامل مع الولايات المُتحدة الأميركية. وهذا يعني خسارات مالية هائلة خصوصًا للشركات الأوربية.
القدرة الأميركية في إخضاع الشركات العالمية، تنبع من حجم السوق الأميركي والذي ستُحرمّ منه هذه الشركات في حال تعاونت مع إيران إقتصاديًا وماليًا.
ولا يُمكن تجاهل القدرة المصرفية الأميركية النابعة من حجم المصارف الأميركية ومن حجم الأسواق المالية في الولايات المُتحدة الأميركية (بورصة نيويورك وحدها تستقطب 60% من الإستثمارات العالمية في أسواق الأسهم). وبالتالي أي معاملة تجارية بالدولار الأميركي ستمرّ حتماً في هذه المصارف التي ستمتنع عن تنفيذها تطبيقًا لقرار العقوبات الصادر عن الإدارة الأميركية.
فعليًا، الشركات العالمية (غير الأميركية) ستخسر من قدرتها السوقية لصالح الشركات الأميركية على صعيدين: فقدان السوق الإيراني وفقدان قسم من السوق الأميركي مع إعادة فرض رسوم على البضائع المُستوردة. وهذا الأمر سيسمح للشركات الأميركية بزيادة إستثماراتها وبالتالي ستزيد قدرتها التنافسية العالمية بشكل ملحوظ مما يعني رفع الطلب الداخلي والخارجي على بضائعها.
لبنانيًا، لا تداعيات من خلال القناة الإقتصادية بحكم أن التبادل التجاري والمالي مع إيران هو شبه معدوم وبالتالي لا خوف من تداعيات على النمو الإقتصادي، إلا أن المخاوف تبقى من خلال القناة السياسية والأمنية التي ستؤثّر حكمًا على لبنان.
فعليًا إمكانية حصول تداعيات أمنية داخل لبنان معدومة، لكن الساحة السورية ستكون عرضة لتطورات أمنية ستؤثر حكمًا على ثقة المُستثمر كما وثقة المُستهلك. كما أن إمكانية إصدار لائحة عقوبات على أفراد وشركات لبنانية مع آلية تطبيق جديدة، تُثير مخاوف فعلية من ناحية أن هذه العقوبات تؤثرّ سلبًا على ثقة المُسثمرين. لكن هذا التراجع المُحتمل في الإستثمارات ستعوّضه حكمًا إستثمارات سيدر 1.
لكن العامل الأخطر على الإقتصاد اللبناني يبقى التجاذب السياسي الذي قد يخلقه فرض العقوبات على بعض الشخصيات اللبنانية كما والمواقف الرسمية التي قد تُفرض على لبنان.
هذا العامل هو الأكثر خطرًا على الإقتصاد اللبناني لأنه سيؤدّي إلى تعطيل القرارات الإقتصادية وبالتالي سيمنع أي نمو إقتصادي وسيزيد من ضرب المالية العامّة. من هذا المُنطلق مطلوب من الطبقة السياسية اللبنانية الكثير من الوعي في هذه المرحلة السياسية الحرجة خصوصًا مع التعقيدات التي ستواجه تشكيل الحكومة اللبنانية.
أمّا في ما يخص سعر صرف الليرة اللبنانية، فإن وضعها ثابت ولن تتأثر بتطور الأوضاع السياسية، الأمنية، الإقتصادية أو المالية. والسبب يعود إلى صلابة الإحتياطي من العملات الأجنبية ولكن أيضًا إلى الخيارات الفعّالة الأخرى التي يمتلكها البنك المركزي، والتي لم يستخدمها حتى الساعة.
أمّا تراجع سعر سندات الخزينة اللبنانية المُقوّمة بالدولار الأميركي، فهو أمر طبيعي لأن السندات مطروحة للتداول في الأسواق المالية وإنخفاضها بقيمة 2.75 نقطة ما هو إلا ردّة فعل طبيعية للمُستثمرين هذا هو حجمها، وبالتالي لا خوف من إنهيار كما ورد في بعض وسائل الإعلام.