تتباهى «القوات اللبنانية» بأنها ربحت بـ»المقاعد الصافية». ويتباهى «التيار الوطني الحرّ» بـ»الحجم». وأما الحريري فيعتبر صموده انتصاراً. ويشعر حزب الكتائب بالصّدمة لتقلّص الكتلة. ولكن، على أرض الواقع، هذه الانتصارات والهزائم مُهِمَّة لأصحابها، على مستوى ضيِّق، ولكن، لا أهمية لها في المفهوم الاستراتيجي.
في المعيار الاستراتيجي، هناك منتصر واحد واضح في المعركة، ومهزوم واحد واضح. المنتصر هو خط 8 آذار السياسي، والمهزوم هو خط 14 آذار . ولذلك، يمكن القول إن «الثنائي الشيعي» وحلفاءه من السنّة والمسيحيين والدروز هم المنتصرون فعلاً، على المستوى الاستراتيجي، وإن الآخرين- تالياً- هم المهزومون.
الأصحّ أن يتم الحساب، وفق معيار الخط السياسي، لا وفق أحجام الكتل السياسية أو وفق التوافقات الطارئة حول الملفات المطروحة. وحينذاك، ستظهر حقيقة التوازنات «العميقة» سياسياً في المجلس النيابي الجديد، وهي الأهمّ.
من السهل احتساب حجم الكتل النيابية التي تمثّل القوى السياسية المصنّفة خارج خط «حزب الله» السياسي- مبدئياً:
«المستقبل» 21 نائباً، «القوات اللبنانية» 16 نائباً والكتائب 3 نواب، أي ما مجموعه 40 نائباً. ويضاف إليهم نواب جنبلاط المصنّفون في خانة وسطية، وعددهم 9. وربما كان هناك نائب أو بضعة نواب قلائل في الخانة إياها.
وفي النتيجة، ليس هناك أكثر من 50 نائباً يمكن تصنيفهم في الخط السياسي المقابل لـ»حزب الله» وحلفائه الذين حصدوا المقاعد الـ78 الباقية في المجلس:
نواب كتلتي «أمل» و»حزب الله» 29، وحلفاؤهم الأقربون 20، والتكتل الذي أقامه «التيار» 29.
وهذا يعني أن الملفات الحسّاسة المتعلقة بالسياسة الخارجية والأمن باتت محكومة شرعياً بغالبية نيابية واضحة. ولا يتعلق الأمر بملفي السلاح والحرب في سوريا المقفلين أساساً، بل أيضاً بالانفتاح على دمشق.
وأما الكلام على تحالفات أو توافقات موضعية، قد تعاكس التحالفات السياسية، كأن يجتمع الثنائي الشيعي و»القوات» أو الكتائب أو «المستقبل» أو الاشتراكي، فالأمر سيكون عابراً على الأرجح، وسيقتصر على ملفات محددة، معظمها ذو طابع اقتصادي.
في المقابل، ستتكتل القوى المسيحية على الأرجح حول ملفات معينة كالتجنيس والنازحين وأي مسألة أخرى ذات طابع طائفي. ويقابل ذلك تكتّل القوى السنّية في ما يتعلق بمسائل تَهُمُّ الطائفة وموقع رئاسة الحكومة.
إذاً، في المعيار السياسي، يجدر تسجيل الاستنتاج الآتي:
جاء برلمان 2018 بغالبية واضحة لـ8 آذار، خلافاً لمجلسي 2005 و2009. ولطالما سعى «حزب الله» وحلفاؤه إلى تحقيق هذا الهدف، لـ»تصحيح الخلل» الذي وقع في العام 2005، وأدى إلى انقلاب المعادلة في لبنان لغير مصلحته، مع خروج القوات السورية.
وهذه العودة إلى الوراء «كَمّاً»، أي بعدد النواب وأَحجام الكتل، تواكبها العودة «نوعاً»، أي ببروز العديد من رموز المرحلة السابقة في المجلس النيابي، وهم ينتمون إلى طوائف ومناطق مختلفة. وهذا ما يرسّخ الانطباع المطلوب.
ستكون هناك مشاكسات في المجلس الجديد على مسائل كثيرة مختلفة. ولكن المسائل السياسية والأمنية الحسّاسة سيحسمها موقف «حزب الله». وأساساً، في ظل المجلس الذي تنتهي ولايته خلال أيام، مشى الجميع في الطريق التي أرادها «الحزب». فاختاروا رئيساً للجمهورية حليفاً له، وسكتوا- عاجزين- عن السلاح والتدخُّل في حروب المنطقة.
ولكن، هل يعني ذلك أن «حزب الله» سيستفيد من هذه الغالبية للقيام بـ»انقلاب أبيض» شرعي يقوده إلى السيطرة، هو وحلفاؤه، على المؤسسات بشكل كامل؟
العارفون يقولون: لدى «الحزب» من الحكمة ما يكفي لتجنب هذا السلوك. ولذلك أسباب داخلية وخارجية:
1 - يكفي «الحزب» أن يكون مطمئناً إلى القرار الداخلي والخط السياسي العام، في المجلس والحكومة والرئاسة. فهو ليس مضطراً إلى المبالغة وإحراج الحلفاء والخصوم معاً. فحتى أقرب المقربين إلى «الحزب» سياسياً يفضلون الاحتفاظ بهوامش في التموضع والقرار.
ولذلك، هو سيحاول إبقاء نفسه في منأى عن المناكفات الصغيرة، وسيتفرّج على الحلفاء والخصوم يتصارعون على المكاسب والمواقع في مجلسي الوزراء والنواب، ليتفرغ هو للمسائل الأساسية.
2 - يحتمي «الحزب» بالمظلّة الوطنية الشاملة التي تمثلها الحكومة اللبنانية، وهو يستخدمها لمواجهة الضغوط الأميركية، وليس في مصلحته الإيحاء بأن السُنّة والمسيحيين قد «ذابوا» فيه. وتهديد وزير التعليم الإسرائيلي نفتالي بينيت للبنان، على خلفية انتخاب اللبنانيين غالبية نيابية موالية لـ»حزب الله» هو نموذج.
وهكذا، سيكون «حزب الله» وحلفاؤه مطمئنين إلى انتهاء مفاعيل آذار 2005 تقريباً، باستثناء العودة السورية المباشرة طبعاً. لكن عهداً من التواصل بين بيروت ودمشق يجب توقُّعه عندما تنضج الظروف. وكل ملائكة هذا التواصل باتوا حاضرين، أينما كان.