ينقسم المجتمع الدولي بين رأيين في مقاربته الأولية النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات النيابية في لبنان، الأول تمثله الولايات المتحدة الأميركية ويقوم على أن «حزب الله» تمكن من السيطرة على البرلمان المنتخب، في معرض مقارنتها بين توزيع المقاعد النيابية على المكونات والأطياف السياسية والحزبية في المجلس النيابي الحالي، وبين ما كان عليه ميزان القوى في البرلمان الذي انتخب عام 2009 ومدد له ثلاث مرات لحوالى خمس سنوات وتمكُّن «قوى 14 آذار» في حينها من الحصول على أغلبية المقاعد فيه، أي أكثر من نصف عدد أعضائه.
وفي المقابل، يرى عدد من الدول الأوروبية، كما تقول مصادر نيابية لـ «الحياة»، إن هذه المقاربة غير دقيقة ولا تعكس توزع المقاعد النيابية على الخريطة السياسية للبرلمان المنتخب إلا بالقول إن «حزب الله» بالتحالف مع حركة «أمل» وبعض النواب ممن عادوا إلى البرلمان بعد رسوبهم في دورة الانتخابات النيابية السابقة، وبالتفاهم مع «تكتل لبنان القوي» الذي يتزعمه «التيار الوطني الحر» بدعم من رئيس الجمهورية ميشال عون، استطاع أن يفرض سيطرته على البرلمان.
وتؤكد المصادر نفسها أن لا مصلحة في تقديم «حزب الله» وكأنه سيطر على البرلمان المنتخب، خصوصاً أن هناك تكتلات نيابية، ومنها تلك المناوئة لزعيم تيار «المستقبل» رئيس الحكومة سعد الحريري، ليست في وارد قبول التعامل معها على أنها جزء من التحالف الاستراتيجي مع «حزب الله» وتدافع على بياض من دون أي تحفظ عن خياراته الإقليمية والدولية، خصوصاً تلك الخاصة بحلفه الوثيق مع إيران.
وتلفت المصادر نفسها إلى أن بعض التكتلات النيابية، أكانت قديمة أم حديثة الولادة، يمكن أن تقف مع «حزب الله» أو تستقوي به في مسألة النزاع على السلطة بشقه الداخلي دون الخارجي، وتعزو السبب إلى أن لا مصلحة لها في أن تقدم نفسها على أنها جزء منه، ومستعدة للذوبان في محور الممانعة الذي يتكون من الحزب وإيران والنظام في سورية، لأن تفريطها بالحد الأدنى من استقلاليتها سيعرض مصالحها السياسية والاقتصادية المرتبطة بعدد من الدول العربية إلى الضرر في ظل احتدام الصراع في المنطقة.
وتعترف بأن «حزب الله» نجح في زيادة عدد مقاعده في البرلمان، لكن هذه الزيادة لا تمكّنه من السيطرة على السلطة، وأن لديه حاجة ماسة إلى حليفه في الثنائي الشيعي رئيس حركة «أمل» نبيه بري، لأنه بسياسته المتوازنة حيال أمور داخلية وخارجية يحافظ على منح الطائفة الشيعية غطاء عربياً، وبالتالي لوجود بري على رأس البرلمان المنتخب أكثر من ضرورة لقطع الطريق على تحويل الشيعة إلى طائفة مكشوفة عربياً ودولياً.
ورئيس المجلس -كما تقول المصادر- ليس في وارد الدخول في حرب إلغاء يريد البعض منها فرض حصار سياسي على من يخالف «حزب الله» في خياراته السياسية، إضافة إلى أن زعيم تيار «المردة» سليمان فرنجية ليس في وارد اللحاق بالحزب، لأنه يضعف من حظوظه في خوض الانتخابات الرئاسية كمرشح اختار لنفسه الوقوف في منتصف الطريق، لأن مجرد ذوبانه في المعادلة التي يرعاها الحزب تفقده الحد الأدنى من الحيادية.
لذلك، فإن الفارق بين الانتخابات الأخيرة وبين سابقتها يكمن في أن «قوى 14 آذار» كتحالف سياسي متراص الصفوف لم يعد موجوداً بعد خروج الحزب «التقدمي الاشتراكي» منه وإعادة تموضع أطرافه انتخابياً وخوضها الانتخابات في بعض الدوائر على لوائح متنافسة.
لمن الأكثرية؟
لكن النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات لم تحسم لمن ستكون الأكثرية في البرلمان، على رغم أن فيه تكتلات نيابية كبرى وأوصلت حزب «القوات اللبنانية» إلى البرلمان بكتلة نيابية ضمت حوالى ضعفي عدد نواب كتلته في الانتخابات السابقة.
وعليه، فإن «القوات» أوشك أن يصبح الشريك الثاني لـ «التيار الوطني» في تمثيل المسيحيين في البرلمان، وهذا ما بدأ يشكل إزعاجاً لزعيم الأخير وزير الخارجية جبران باسيل، وما قراره بفتح النار على سمير جعجع إلا محاولة لصرف الأنظار عن الخريطة السياسية للشارع المسيحي التي أفرزتها الانتخابات.
وربّ قائل بأن لهجوم باسيل على «القوات» علاقة مباشرة باستباق الصراع على توزيع الحقائب الوزارية بين المسيحيين، الذين هم الآن أمام مرحلة سياسية جديدة تختلف عما قبلها.
وعلى رغم أن باسيل حاول الإفادة من دعم العهد، فإنه أخفق -كما تقول المصادر- في الحفاظ على حجمه النيابي في جبل لبنان الذي يشكل على الدوام الساحة الكبرى للمنافسة بين المسيحيين، وفقد ستة مقاعد من 18 مقعداً نيابياً كان يسيطر عليها في الانتخابات السابقة بالتحالف مع «حزب الله» وحزبي «الطاشناق» و «السوري القومي الاجتماعي».
وفي هذا السياق، كان تكتل «التغيير والإصلاح» يضم 18 نائباً في السابق أما اليوم فأصبح عدد نواب «تكتل لبنان القوي» 12 نائباً. وجاءت خسارته عدداً من المقاعد لمصلحة «القوات»، الذي نجح في أن يتمثل نيابياً في جميع دوائر وأقضية جبل لبنان، بينما لم يتمثل في دورة الانتخابات السابقة إلا بنائب واحد أعيد انتخابه هو جورج عدوان.
مكاسب «القوات»
أما لماذا نجح «القوات» في أن يثبت وجوده انتخابياً وبرقم ضاعف تقريباً حجمه النيابي في السابق، فإن الجواب يأتي على لسان مصدر مسيحي مواكب للحصيلة الانتخابية بدءاً بجبل لبنان، يؤكد فيه أن «القوات» حقق تقدماً في كسب تأييد الناخب المسيحي في الجبل، على رغم أنه لم يتحالف مع «التيار الوطني» في أي دائرة من دوائره الانتخابية.
ويضيف أن ثلاثة أمور ساعدت «القوات» في معركته الجبلية، الأول أن جعجع نجح في تلميع صورته في الشارع المسيحي ولم يعد «البعبع» المرفوض الذي يُحذر التصويتُ له، والثاني أن لديه ماكينة انتخابية أحسنت إدارة الانتخابات لوجستياً، وتحديداً في كيفية توزيع الأصوات التفضيلية، إضافة إلى أن مشاركته في الحكومة الحالية برئاسة سعد الحريري عكست ارتياحاً لدى المسيحيين، خصوصاً في إدارة ملف الكهرباء وأمور أخرى.
ويرى المصدر أن «التيار الوطني» أخطأ في اختيار بعض مرشحيه، وهذا ما دفع ببعض محازبيه إلى البقاء في بيوتهم وعدم التصويت للوائحه احتجاجاً على خياراته، ويقول إن «القوات» اجتذب أعداداً كبيرة من المحايدين أو أولئك الذين كانوا على خلاف معه.
ويعتقد أيضاً أن «القوات» بادر إلى اتباع سياسة «العض على الجرح» حفاظاً منه على «إعلان النيات» الذي أبرم في معراب بين العماد عون قبل انتخابه رئيساً للجمهورية وبين جعجع، وأدى إلى تكريس المصالحة المسيحية- المسيحية، وهذا ما تميزت به قيادته برفضها في أكثر من مناسبة الانجرار وراء هجوم باسيل عليه لإخراجه من المصالحة.
ويلفت إلى أن الصراع بين «القوات» و «التيار الوطني» قد يتطور مع بدء البحث في تشكيل الحكومة وتوزيع الحقائب الوزارية، ويؤكد أن قوى أخرى ستنضم إلى هذا الصراع مع أن المرشح البارز لتولي رئاستها، أي سعد الحريري، يتجنب الدخول في لعبة رفع منسوب الاحتقان السياسي ويسعى إلى التهدئة ويطمح في حال تقرر تكليفه بتشكيلها إلى اعتماد مبدأ السرعة لا التسرع، لأن الوضع الاقتصادي يتطلب للنهوض به الحفاظَ على الاستقرار وأن تأتي التركيبة الوزارية بمثابة رافعة للنهوض بالبلد، لا أن تتحول إلى جزر سياسية تفتقد الانسجام الذي لا غنى عنه لحماية البلد وتحصينه، لتكون لديه المقدرة على مواجهة ما يرتد عليه من تقلبات نتيجةَ التأزم الذي تمر به المنطقة.