يجب الإقرار انّ الاستقرار السياسي الذي شهدته المرحلة التي تلت التسوية الرئاسية غير مسبوق منذ العام 2005 عندما كان التعطيل سيّدَ الموقف حكومياً ونيابياً، فيما الانتظام المؤسساتي الذي تكرّس مع انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية هو الأوّل من نوعه إلى درجة أنّ الخلافات التي شهدتها هذه المرحلة، وهي كثيرة ولا يستهان بها، لم تؤثر على سير عمل الحكومة ومجلس النواب.
ويجب الإقرار أيضاً أنّ مزاج الناس الذي أظهرته الانتخابات أبدى ميلاً إلى المعارضة من داخل المؤسسات ورفضه المعارضة الثورية التي تريد نسف التسوية من أساسها، فصبّ اقتراعه لمصلحة القوى القادرة على ربط نزاع فعلي في كل الميادين السيادية والإصلاحية، كما صبّ لمصلحة الشخصيات والقوى التي تعرّضت لمحاولات إلغاء وتحجيم.
وبمعزل عن تقييم هذا الفريق أو ذاك، إلّا انّ ما لا يمكن إنكارُه ولا إغفاله أنّ الاستقرار السياسي القائم غير مسبوق أولاً، وأنّ المصلحة تكمن باستمراره ثانياً كون الناس ملّت من المواجهات العقيمة، أي المواجهات من دون أفق، ولكن من دون أن يتخلّى كل فريق عن مشروعه بانتظار نضوج ظروف التسوية في المنطقة، لأن لا «حزب الله» لديه القدرة على السيطرة على لبنان، ولا أخصامه قادرون على نزع سلاحه بالقوة أو إلزامه على تسليمه.
وما لا يمكن إنكاره أيضاً انّ هذه المرحلة أنتجت قانوناً جديداً للانتخابات ونظمّت العملية الانتخابية، بالإضافة إلى كل الملفات الداخلية والخارجية التي لم يكن ممكناً إقرارُها لولا الانتظام المؤسساتي القائم، فضلاً عن انّ الشريحة الساحقة من المواطنين التي تبدأ عند «القوات اللبنانية» ولا تنتهي عند «حزب الله» تريد الاهتمامَ بأولويّاتها الحياتية والمعيشية.
والهدف من كل ما تقدّم التشديد على عنوان المرحلة الأساس وهو سياسة النأي بالنفس، هذه السياسة التي أتاحت وحدها هذه المساحة من الاستقرار السياسي، لأنّ الاشتباك الداخلي مزدوج، الشقّ الأوّل منه انتفى مع تسليم «حزب الله» بالتوازنات التي أنتجتها مرحلة الخروج السوري من لبنان واستحالة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، والشقّ الآخر متّصل بانخراط الحزب في أزمات المنطقة وتحويله لبنان إلى ساحة رسائل، وقد لمس أنّ تجاوزاته من محاولات التطبيع مع النظام السوري إلى الجولات السياحية لقادة ميليشيات محور المقاومة في المنطقة كادت تهزّ الاستقرار السياسي وتؤدّي إلى سقوط التسوية السياسية، والدليل أنّ الحزب وعندما إدرك أنّ محاولاته لن تمرّ تراجع عنها، وبالتالي الضمانة الوحيدة لاستمرار الاستقرار والانتظام تكمن في الالتزام بسياسة النأي بالنفس والتي من دونها يعود لبنان إلى مرحلة اللاستقرار.
فسياسة النأي بالنفس هي المدخل والمعبر للحفاظ على التسوية ومواصلة الإنتاجية المطلوبة بعيداً من التعطيل والانقسامات العمودية، خصوصاً أنّ المنطقة تمرّ في مرحلةٍ ساخنة جداً، فعدا عن انسحاب واشنطن من الاتّفاق النووي والتداعيات المنتظرة لهذه الخطوة، فإنّ الاشتباك الإسرائيلي-الإيراني فوق سوريا يُنذر بانعكاسات خطيرة، لا سيما أنّ تل أبيب أعلنت صراحة عن أنّ أحد أهدافها إخراج طهران بالقوة من سوريا في حال لم تنسحب من تلقاء نفسها.
فما تشهده المنطقة هو بمثابة الزلزال، وبالتالي في ظروف من هذا النوع المصلحة العليا للبنان تكمن في التمسّك والالتزام بسياسة النأي بالنفس بغية إبعاد البلد من صراعات المحاور وتجنيبه الحروب والكوارث والويلات.
وفي موازاة سياسة النأي بالنفس التي تشكّل العنوانَ الوطني الكبير لهذه المرحلة التي يعجز فيها اللبنانيون عن حلّ أزمة سلاح «حزب الله»، يُفترض أن يكون عنوان الكهرباء 24/24 العنوان الأول على طاولة مجلس الوزراء، وهذا الملف يجب حسمه، والحسم لا يمكن أن يتمّ سوى على القواعد التي حدّدتها إدارة المناقصات.
ويمكن القول إنّ الأمور تقدّمت على هذا المستوى مع الإقرار بإعادة فتح دفتر الشروط على كل الخيارات، فيما لا شكّ أنّ حلّ أزمة الكهرباء وفق الشروط القانونية المطلوبة يشكّل إنجازاً للعهد والحكومة المقبلة، لا سيما أنّ هذا الملف «يجرجر» منذ انتهاء الحرب إلى اليوم، وحلّه يؤدّي إلى تجسير العلاقة بين الناس والسلطة، كما يعتبر إنجازاً على المستوى المالي كونه يفضي إلى حلِّ جزءٍ أساسي من المديونية العامة وعجز الموازنة.
وأما العنوان أو الملف الثالث الذي يجب وضعه على الطاولة وحلّه قريباً هو اللامركزية الإدارية الموسّعة، خصوصاً أنّ النقاش في هذا الموضوع داخل لجنة الإدارة والعدل قطع شوطاً كبيراً ولم يتبقّ سوى إقراره، ومعلوم أنّ هذا المشروع شكّل قاسماً مشتركاً بين معظم البرامج الانتخابية للقوى السياسية، ولم تعد مسموحة المماطلة بإقراره، خصوصاً أنه يشكل حاجة ماسة وحيوية للناس باعتباره يمكّنهم من إدارة شؤونهم الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والمعيشية محلّياً وفي متناول يدهم وقرب مركز إقامتهم وعملهم تسهيلاً للمعاملات الإدارية وتحفيزاً للدورة الاقتصادية، فضلاً عن أنه يعزّز التنمية المتوازنة في المحافظات والأقضية كافة، ويخفّف أعباء الحكم عن كاهل السلطة المركزية.
فمن مصلحة العهد والحكومة معاً وضع أهداف عملية قابلة للتحقّق بعيداً من الحوارات العقيمة في مسائل عامة وعمومية يستحيل الوصول فيها إلى نتيجة وفي طليعتها سلاح «حزب الله» ودوره وإلغاء الطائفية السياسية وغيرهما من الأمثلة، فهل يعتقد أحدٌ مثلاً أنّ الحزب بوارد تسليم سلاحه، أو أنّ تطبيق الشق السيادي في اتّفاق الطائف قابل للترجمة في ظلّ سلاح الحزب، وبالتالي المصلحة الوطنية العليا تقتضي الذهاب مباشرة إلى عناوين عملية والتي يشكّل إنجازُها إنجازاً تاريخياً للمرحلة السياسية الحالية والعهد والحكومة والتي نلخصِّها في ثلاثة عناوين أساسية: النأي بالنفس، كهرباء 24/24 واللامركزية الإدارية الموسّعة.