يتجه الناخبون العراقيون اليوم إلى صناديق الاقتراع لصياغة الإجابة النهائية على سؤال سيحدد مستقبل البلد في لحظة محورية من تاريخه الحديث: هل يختار الناخبون أن يتحول العراق إلى نموذج حكم الحرس الثوري الإيراني، أم يرجحون خيار تثبيت دولة عراقية الهوية؟
ورغم احتدام الجدل حول استبعاد طبقة سياسية أصبح الفساد عنوانا لها، واختيار سياسيين جدد يحاولون تغيير الواقع، يقول مراقبون عراقيون إن هذا الاقتراع يتمحور بالأساس حول “رفض أو قبول الخضوع للهيمنة الإيرانية”.
ومنذ وصول حيدر العبادي إلى منصب رئيس الوزراء عام 2014، خسرت إيران الكثير من استثمارها في البيئة الشيعية العراقية، إذ بدأ يتشكل شعور عراقي داخلي لدى طيف شيعي واسع بأن العراق لا يمكن أن يصبح “حديقة خلفية” لإيران.
وباتت تيارات الإسلام السياسي المرتبطة بإيران محل شك كبير من قبل حواضن اجتماعية كانت تشكل قاعدة سياسية لها في السابق.
ويتنامى هذا الشعور العراقي الداخلي مع تعمق العزلة الإيرانية، إثر انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وما يستتبع ذلك من تداعيات اقتصادية تعقد مهمة إيران في إدامة زخم عملياتها الخارجية في كل من اليمن ولبنان وسوريا والعراق.
ولذلك، ستشكل الانتخابات العراقية تحولا مفصليا لمستقبل البلاد، وتحديد ما إذا كان العراق دولة كاملة الاستقلالية، أم ستبقى إيران صاحبة اليد الطولى في قرارها السياسي.
تيارات الإسلام السياسي المرتبطة بإيران باتت محل شك كبير من قبل حواضن اجتماعية كانت تشكل قاعدة سياسية لها في السابق
وقال المحلل السياسي العراقي فاروق يوسف لـ”العرب” إن “تأثيرات القرار الأميركي ستنعكس على إيران مباشرة في مرحلة ما بعد الانتخابات حين يتم اختيار رئيس وزراء المرحلة المقبلة. فإذا تم التوصل إلى تسوية أميركية ــ إيرانية فإن العراق سيحكم بواسطة حكومة موالية لإيران المعزولة عن العالم، وسيتحمل العراق جزءا من الخسائر التي سيمنى بها الاقتصاد الإيراني”.
وأضاف “التغيير في العراق عبر هذه الانتخابات محتمل لكنه سيكون محدودا، ذلك لأن غياب عدد قليل من رموز السلطة الحالية من المشهد المستقبلي لا يعني أن المشروع الذي ارتبطت بعجلته تلك الرموز سيندثر. فذلك المشروع مرتبط بشكل أساس بهيمنة إيران على مفاصل عديدة في الدولة العراقية”.
ومع أن التنافس الانتخابي يمتد على طول الخارطة العراقية، فإن “صراع المستقبل” يتركز في الفضاء الشيعي، ويدور بين فريقين انتخابيين يتنافسان على أساس شكل العلاقة مع إيران.
ويضم الفريق الأول زعيم “منظمة بدر” هادي العامري، وزعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، وزعيم ميليشيا “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي، وزعيم حركة “النجباء” أكرم الكعبي، بالإضافة إلى زعيم المجلس الأعلى الإسلامي همام حمودي.
ويدفع هؤلاء الزعماء السياسيون نحو انخراط العراق في “محور الممانعة”، الذي تتزعمه إيران ويضم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وحزب الله اللبناني، وميليشيا الحوثيين في اليمن.
ووفقا لرؤية قيادة هذا المعسكر السياسي، فإن على العراق معاداة الخليج برمته والغرب في معظمه، وعلى رأسه الولايات المتحدة.
لكن محللين يقولون إن الشخصيات التي تتزعم هذا التوجه تمثل الجيل السياسي العراقي الأخير الذي يتبنى هذا الشكل من العلاقة معا.
من أجل عراق جديد
التخلص من الوصايا الإيرانية
وفي نفس الوقت، يتنامى في الأوساط الشيعية الشابة شعور بامتلاك العراق قدرات اقتصادية كبيرة لا تتوفر لإيران، وتنتفي معها حاجة بغداد إلى المساعدات الخارجية، لا سيما مع مواصلة هيمنة الأحزاب والشخصيات الشيعية على المناصب الرسمية العليا في العراق.
ويتحدث هؤلاء عن “جدوى التبعية لإيران المعزولة دوليا، والمحاصرة اقتصاديا، سوى أن يكون العراق سوقا لبضائعها، وحدوده ممرا لموادها المهربة من وإلى سوريا”.
أما الفريق الثاني، فيضم رئيس الوزراء حيدر العبادي وزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، وبدرجة أخرى زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم.
ويشجع هذا الفريق انفتاح العراق على محيطه الإقليمي والعالم، إلى جانب علاقات متوازنة مع إيران.
وبالرغم من أن الفريق الثاني لم تصدر عنه أي إشارات على مناصبته العداء لإيران، إلا أن اثنين من رموزه، وهما العبادي والصدر، باتا مصدر قلق دائم لطهران، التي قامت بتصنيفهما مؤخرا على أنهما “من أخطر أعداء الشيعة في الداخل”.
أذرع إيران تبالغ في الحديث عن الفساد لجذب الأنظار بعيدا عن الأسس التي تقوم عليها المحاصصة الطائفية
ويعول الفريقان على انتخابات اليوم لمعرفة حجم كل منهما، ومستوى التأييد الشعبي الذي يتمتع به، للمضي في مشروعه الخاص.
ويقول مراقبون إن “الانتخابات العراقية الحالية هي اختبار حاسم لإرادة العراقيين في ما إذا كانوا يريدون لبلدهم أن يمتلك قراره السياسي كليا”.
لكن فاروق يوسف يرى أنه “في أحسن حالاته، فإن مجلس النواب في دورته المقبلة سيكون أكثر تنوعا من حيث الوجوه لا من حيث الأفكار عن الدورات السابقة. أما سلطة القرار فيه فستكون حكرا على الكيانات السياسية نفسها. فمن الصعب تخيل أن رئيس الوزراء المقبل سيحتل منصبه من غير تحالفات بين تلك الكيانات، وهو ما ينذر بخطر بقاء حزب الدعوة في الحكم لأربع سنوات أخرى إذا ما لجأ العبادي إلى التحالف مع المالكي”.
وتستخدم الطبقة السياسية العراقية، رغم الاختلافات بين معسكريها الرئيسيين، ملفات الفساد من أجل الضغط السياسي، وللتغطية على الوضع السياسي المتنامي للحشد الشعبي في العراق.
وفي بعض الأحيان تقوم أذرع إيران بالمبالغة في الحديث عن الفساد لجذب الأنظار بعيدا عن الأسس التي تقوم عليها المحاصصة الطائفية، والتي تشهد رفضا متناميا في الشارع.