لن يستطيع السياسيون اللبنانيون الذين يخاصمون رئيسي الجمهورية والحكومة، أن يقفوا في وجه التكليف المحتمل لسعد الحريري بتأليف حكومة جديدة تلي انتخابات انتظرها اللبنانيون تسع سنوات، وأتت بخريطة مشابهة للبرلمان السابق، مع زيادة في عدد نواب «القوات» وتراجع طفيف في عدد نواب «المستقبل». وبذلك تتأكد التعددية السياسية لدى الطائفتين الكبريين، الموارنة والسنّة، في حين يتأكد الاستقطاب والشمولية لدى الطائفة الكبرى الثالثة، الشيعة، مع هيمنة ثنائي «أمل»- «حزب الله» على ممثليها في البرلمان.
التعليقات اللبنانية والعربية والدولية على نتيجة الانتخابات انطوت سريعاً لدى إعلان الرئيس دونالد ترامب انسحاب إدارته من الاتفاق النووي مع إيران، فالقرار الأميركي الذي لم يكن مفاجئاً عزز القلق على استقرار لبنان، خصوصاً مع نُذُر حرب إسرائيلية- إيرانية على الأرض السورية يمكن أن تطاول لبنان في أي لحظة، وبالتحديد حين يصدر أمر طهران بانخراط «حزب الله» في هذه الحرب من مواقعه اللبنانية.
قريباً يجتمع البرلمان الجديد لانتخاب رئيسه وتبدأ المشاورات لتسمية رئيس للحكومة يعمل لاحقاً على تشكيلها. ولما كان هذا البرلمان هو الأول في عهد ميشال عون، يتجدّد معه اتفاق رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الذي سبق أن أنجز انتخابات الرئاسة الأولى، وقد أكد عون والحريري استمرار اتفاقهما بعد انتخاب البرلمان الجديد، ووعد رئيس الجمهورية بعقد حوار وطني لاستكمال تطبيق اتفاق الطائف الذي أوقفته عند حدود معينة سلطة الوصاية السورية لتحفظ لنفسها مهمة حلّ الخلافات بين رؤساء الجمهورية والنواب والحكومة، أي أن القول الفصل في حكم لبنان كان يصدر من دمشق لا من بيروت، والموضوع الثاني في الحوار الوطني هو إقرار استراتيجية دفاعية تتطلب الاتفاق على مسألتين شائكتين: الأولى سلاح «حزب الله» وحاملوه والجهة التي تأمرهم، والثانية هي الخطر الإسرائيلي والضغوط الأمنية الآتية من الحكم السوري ومن معارضيه المختلفين على كل شيء والمتفقين فقط على التدخُّل في شؤون لبنان.
ليس المطلوب «تطويب» عون والحريري في منصبيهما واعتبارهما منقذَيْن وحيدَيْن للبنان في مرحلته الحرجة، إنما المطلوب تخلّي الأقطاب السياسيين عن الخفة في اعتبار أنفسهم أباطرة وانصرافهم إلى صراعات خطرة لإثبات عظمتهم، لا يتحمّلها مسرح لبناني مهترئ بالتعصّب والتحامل والانكفاء على الذات وعبادة الزعيم والنظر إلى الأزمة الاقتصادية كتهمة يوجّهها كل طرف إلى الآخر.
مخاصمة رئيسي الجمهورية والحكومة يمكن التعبير عنها بالنقد السياسي ومتابعة الملفات بدقة لمنع الفساد وإيقاف الفاسدين، ولا تكون المخاصمة بالاقتصار على إضعاف مقام الرئاسة الأولى (عون) ومنع تسمية رئيس الحكومة (الحريري) أو دفعه إلى الاستقالة إذا شكّل حكومته. هذا الشكل من المخاصمة يضعف، واقعياً، مستوى السياسيين اللبنانيين ويؤدي إلى لقاء موضوعي، مثلاً، بين «القوات اللبنانية» و «الحرس الثوري» مهما رفع القواتيون عقيرتهم بالشعارات الوطنية ومناهضة النفوذ الإيراني. ومثل «القوات» أحزاب أخرى تشغل نفسها بإضعاف المنافسين السياسيين وتنسى أن المطلوب واحد في هذه المرحلة: إنقاذ لبنان من الحرب الإسرائيلية- الإيرانية والابتعاد عن التوسُّع في الصراع السياسي لئلا يتحوّل صراعاً عسكرياً طالما عانى منه اللبنانيون ولا يريدون تكراره.
مرحلة ما بعد الانتخابات وانسحاب أميركا من الاتفاق النووي الإيراني. إنها امتحان جديد لزعماء لبنان النصف مدنيين النصف عسكريين. نأمل أن لا يسقطوا في الامتحان ويسقط معهم وطن غال على أهله وعلى العرب وعلى المتعاطفين مع التعددية والديموقراطية والجمال.