تصرّفت دول العالم المعنية بالاتفاق النووي مع إيران بانبهار ينمّ عن مفاجأة من أمر كان أعلن عنه دونالد ترامب حين كان مرشحا للانتخابات الرئاسية. عبّرت كل الدول الموقعة مع الولايات المتحدة، عن أسف، ثم بعد ذلك، عن تحذير مما يترتب على الأمر من تهديد للسلام وحتى للنظام الدولي برمته وفق الرواية التي صدرت عن الصين. بدا في لحظة واحدة أن العالم عاد عنقودا تمسك به واشنطن دون غيرها، وأن الحرد الأميركي مما يعتبر اتفاقا يعكس عالما متعدداً يعيد تصحيح ذلك المشهد وتأكيد أحادية قطبية لم تستطع طموحات روسيا ولا توسّع الصين من النيل من حقيقته.
لم تبدأ المفاوضات حول البرنامج النووي مع الولايات المتحدة بل مع ما كان يسمى بالترويكا الأوروبية. كان حسن روحاني حينها مشرفا على التفاوض ممنّيا النفس أن تغري ورشة التفاوض واشنطن فتلتحق بما يمكن أن يحوّل الجعجعة إلى اتفاق حقيقي يضع إيران في مصاف الكبار. كان روحاني يعرف أن لا اتفاق جديا دون واشنطن، وبناء على ذلك انتخب رئيسا للجمهورية وكلّف بإنجاز هذا الحلم مع الأميركيين، بعد أن أتاهم رئيس يرى في “عقيدته” أن الحل هو اتفاق مع طهران يغير يوما ما من شكل النظام الإيراني وسلوكه.
لم يكن جوهر الاتفاق الذي وقعته مجموعة 5+1 مع إيران جماعيا. كان في حقيقته ثنائيا تمت المفاوضات حوله بين دبلوماسيين أميركيين وإيرانيين في مسقط عاصمة سلطنة عمان. جرى الأمر من وراء ظهر أهل المنطقة وأبلغ إلى “الشركاء” الذين محضوه توقيعا في يوليو من عام 2015.
وحين جعل المرشح دونالد ترامب من “الانسحاب من أسوأ اتفاق” عنوانا من عناوين الحجّ نحو الرئاسة في الولايات المتحدة، كان يعلم جيدا ظروف ولادة الاتفاق في ما هو معلن وما هو مضمر، وكان يدرك جيدا أن انسحاب الولايات المتحدة من هذا الاتفاق يحيلُ توقيع الآخرين حبرا على ورق.
يعلن قائد الحرس الثوري الإيراني الجنرال محمد علي جعفري أن الأوروبيين مرتبطون بالولايات المتحدة ولا يمكنهم اتخاذ قرار مستقل للحفاظ على الاتفاق. صدق الرجل في هذا، وهو أمر يحمل أخبارا سيئة لإيران. يعلن جعفري في ما يريد له أن يكون موقفا مُحقّراً لأوروبا، أن إيران فقدت الاتفاق الحلم، وأن ذلك التداول الثنائي في مسقط الذي أبصر النور اتفاقا في فيينا لن يتيح لإيران أن تكون أمرا واقعا يُفرض على العالم بالرعاية الكاملة للولايات المتحدة.
على هذا فإن خروج الولايات المتحدة بصفتها إحدى الدول الموقعة من الاتفاق يُسقط الاتفاق، في حين أن بقاء كل الموقعين الخمسة الآخرين لا ينقذ هذا الاتفاق. أمر تعرفه طهران، وهي تكابر للإيحاء بغير ذلك.
الجنرال محمد علي جعفري يعلن أن إيران فقدت الاتفاق الحلم، وأن ذلك التداول الثنائي في مسقط الذي أبصر النور في فيينا لن يتيح لإيران أن تكون أمرا واقعا يفرض على العالم
لم تعترف طهران يوما بسعيها لامتلاك القنبلة النووية، وذهب المرشد علي خامنئي إلى اعتبار الأمر ضد الدين ومخالف للشرع. كانت طهران منذ “تسريبها” لمعلومات حول برنامجها النووي السري، ترومُ التلويح للعالم بما تمتلكه من إمكانيات تقود إلى التحوّل في ذلك نحو أغراض صناعية، أي عسكرية. بالمقابل ساهمت البروباغندا الإسرائيلية المستمرة حتى الأسابيع الأخيرة في التعظيم من شأن الخطط الإيرانية لامتلاك أسلحة نووية تهددها وتهدد السلم الدولي.
كانت المفاعلات الذرية تعمل وأجهزة الطرد تدور مخصّبة اليورانيوم، فيما ورشة إيران الحقيقية تعمل بجدّ في كل بلدان المنطقة. نشرت طهران مراكزها الثقافية في السودان ودول المغرب العربي ومصر، ونشرت خلاياها في دول الخليج، وتوسّعت مخالبها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. باتت إيران رقما صعبا في كل المنطقة العربية، أقرت منابرها بـ“احتلال أربع عواصم عربية”، قبل أن يعلن أحد كبار مسؤوليها أن إيران أصبحت “إمبراطورية عاصمتها بغداد”.
لم تكن إيران تريد من اتفاقها النووي إلا الانتقال في الشرق الأوسط من وضع الدولة المارقة إلى وضع الدولة العظمى المعترف بها دوليا. وربما يجوز في هذا الإطار التساؤل عما يضمره تعبير “5+1” من اعتراف بإيران كدولة تخاطبها وحدها دول ست كبرى. وربما أيضا يجوزُ التساؤل عن سرّ غياب العرب وتركيا عن اتفاق مع دولة إقليمية يرتبط بهم الخلاف أو الاتفاق معها، أكثر من ارتباط الأمر مع دول لا حدود جغرافية ولا حكايات تاريخية معها.
منح باراك أوباما إيران ما تريد. تعامل معها بحنان المحبّ وراح يوجّه سهام انتقاداته إلى خصومها، ناصحا إياهم بالذهاب نحوها والاتفاق معها على تقاسم النفوذ في المنطقة. كان الرجل يتحرى تبرير “فعلته” فأخرجها ضمن رؤية إستراتيجية شاملة للعالم في ما عرف في مجلة “أتلانتيك” الأميركية بـ“عقيدة أوباما”. انتشت طهران بما أنجزت، وخـرج الإيرانيون فرحين بالتطور المتعلق بالعلاقة المقبلة مع الولايات المتحدة أكثر مما تنطق به أحرف الاتفاق الشهير. بالمقابل سال لعاب الشركاء، لا سيما الأوروبيين، في ما يمكن أن يوفره سوق إيران لشركاتهم الكبرى من عقود.
لكن شيئا ما زلنا لا نعرفه في الولايات المتحدة هو الذي لم يطوّر الاتفاق إلى ما تصبو إليـه طهران، وهو الـذي أوحى للمرشح دونالد ترامب بأن لا مستقبل أميركي لهذه الصفقة، على الأقل في متنها الحالي. لم يبح أوباما بسرّ ذلك، ولم يصدر عن وزير خارجيته آنذاك جون كيري ما يفيد نظيره الإيراني محمد جواد ظريف عن سبب إحجام واشنطن عن رفع الفيتو الذي يتيح للنظام المصرفي والمالي الإيراني أن يكون جزءا من النظام الدولي في هذا المضمار. لم ينقلب ترامب على الاتفاق النووي، فالوكالة الدولية للطاقة الذرية ما فتئت تصدر التقرير تلو التقرير مؤكدة التزام إيران الكامل ببنود الاتفاق. انقلب ترامب على إيران نفسها. لن تسمح إدارة الرئيس الأميركي، لا سيما في أجنحتها التي تزداد صقورية منذ تعيين جون بولتون ومايك بومبيو في المواقع الأساسية للأمن والدبلوماسية في إدارة الرئيس ترامب، أن تكون ما تتمناه.
لم تكن إيران على أولويات الأمن الأميركي الاستراتيجي في مرحلة ما بعد “11 سبتمبر”. كانت طهران شريكا متواطئا في إسقاط نظاميْ طالبان في أفغانستان وصدام حسن في العراق، وبقيت كذلك في زمن الحرب ضد تنظيم داعش. بيد أن “الورقة الإيرانية” سقطت من حسابات واشنطن، وباتت “أميركا العميقة” تعتبر أن إيران لم تعد فقط خطرا على أمن الحلفاء في الشرق الأوسط، بل باتت خطرا على الأمن الاستراتيجي الأميركي في المنطقة.
قد تمثل العمليات الإسرائيلية الأخيرة ضد مواقع إيرانية في سوريا جانباً من عبق ما بعد الاتفاق. فخروج واشنطن من الاتفاق النووي هو مدخل لعملية شاملة تروم إخراج إيران من بلدان المنطقة وإعادة نفوذها الحيوي إلى ما وراء الحدود. أدرك الأوروبيون أمر ذلك وهم الذين أقروا لواشنطن أن “الاتفاق لم يعد كافيا”، على حد تعبير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهم ذاهبون وفق حملة دبلوماسية جماعية إلى تغيير السلوك الإيراني، قبل أن تتحوّل دعوات بومبيو وبولتون إلى تغيير النظام في إيران أمرا حتميا في أجندات البيت الأبيض.