إذا كان بالإمكان القول أن معركة تحديد الأحجام السياسية في لبنان قد أُنجزت مع الانتخابات النيابية في السادس من أيار، حيث عزّز «حزب الله» وحلفاؤه موقعهم في البرلمان والذي يُفترض أن ينسحب تلقائياً على الحكومة، في ظل الاعتقاد السائد بأنها ستكون حكومة توافقية، لا حكومة أكثرية حاكمة وأقليّة معارضة، فإن معركة تحديد حجم اللاعبين الإقليميين في سوريا هي رهن النتائج التي ستُسفر عنها المواجهة المفتوحة بين إسرائيل وإيران على التراب السوري، حيث تقصف إسرائيل قواعد ومواقع عسكرية ومنشآت استراتيجية ومخازن أسلحة وذخائر إيرانية بشكل مركّز، فيما شهد ليل الأربعاء - الخميس الاستهداف الأوسع رداً على تعرّض مواقع إسرائيلية في هضبة الجولان المحتلة للقصف من منصات ضمن نطاق سيطرة النظام السوري، قالت تل أبيب أنها إيرانية من دون أن تتبنى طهران ذلك.
ضربات إسرائيل على مواقع إيران وحلفائها في سوريا تأتي تحت عنوان «منع تحويل سوريا إلى قاعدة أمامية معادية» على غرار ما حصل في جنوب لبنان، الذي شكل لعقود خلت - ولا يزال - صندوق بريد وساحة صراع، كان آخرها حرب تموز 2006 التي نتج عنها القرار الدولي 1701.
سعى «حزب الله» منذ اندلاع الثورة السورية إلى نقل تجربته إلى الجولان، وإلى استنساخ «مقاومته» هناك، وتحضير البنى التحتية واللوجستية لذلك، وواصل محاولاته رغم استهداف إسرائيل لقيادات عسكرية بارزة له ولإيران في تلك المنطقة الحسّاسة. أفادت إيران وذراعها العسكرية الأقوى من موقعها في المعادلة العسكرية لبناء وتخزين ترسانة أسلحة منها ما هو كاسر للتوازن، وأكملت في تلك الاستراتيجية رغم الغارات المتعددة التي طالتها خلال السنوات الماضية.
المواجهة تستعر اليوم بين إسرائيل وإيران وحلفائها على وقع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني. بدا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طليق اليدين، فـ«الردّ» فجر الخميس على الصواريخ التي أُطلقت باتجاه المواقع الإسرائيلية في الجولان لم يسبق له مثيل. هو «رد مناسب» على تجاوز إيران «الخطوط الحمر»، وفق تعبير نتنياهو، الذي يُدرك معنى الرسالة الإيرانية للداخل والخارج بأن «أمن إسرائيل في يدنا». الصواريخ على الجولان لا يمكن فصلها عن الحدث الترامبي الذي يشكل زلزالاً إيرانياً، ما يرفع مستوى المخاوف من طبيعة رد طهران على الساحات التي تبسط نفوذها عليها، ومنها لبنان.
في القراءة الغربية، ولا سيما الأميركية، لنتائج الانتخابات النيابية اللبنانية، ليس ثمة لبس في أن لبنان سقط عبر صندوقة الاقتراع بيد «حزب الله» وفي فلك النفوذ الإيراني. ما يهمّ واشنطن في لبنان، كأولوية، هو الحفاظ على المؤسسة العسكرية، والحؤول دون سقوطها بيد «الحزب»، ذلك أن الرهان على إمكان استعادة الدولة لمقوماتها يبقى معقوداً على القوى الأمنية النظامية، وأي سيطرة مُحكمة عليها ستجعلها عرضة لفقدان الدعم العسكري والسياسي الأميركي لها.
الانطباع العام هو أن الواقعية الأميركية تدفع باتجاه التعامل مع القوى التي تفرزها اللعبة الديموقراطية عادة، وهو أمر صحيح إلى حد بعيد، لكنه - في رأي متابعين يتخذون من واشنطن مقراً لهم - لا ينطبق اليوم على سياسة «البيت الأبيض» حيال لبنان. فالرئيس الأميركي سمّى في بيان الانسحاب من الاتفاق النووي «حزب الله» كأحد التنظيمات الإرهابية المدعومة من طهران، وقبله أشّر إلى مسؤوليته عن مقتل جنود «المارينز» في بيروت وعن دوره المزعزع في المنطقة، وهو ماضٍ في تشديد العقوبات الأميركية على «الحزب» ونشاطاته المالية ومعاقبة من يخرق تلك العقوبات من الشركات والمصارف.
ووفق هؤلاء المتابعين، فإن موقف السفيرة الأميركية من العملية الانتخابية لا يعكس بدقة حقيقة نظرة مواقع القرار في الدبلوماسية الأميركية، ولا سيما مع تعيين وزير الخارجية الجديد مايك بومبيو. فثمة فهم لموازين القوى في لبنان ولغياب القوى التي تصفها بـ«السيادية» وتَضَعضُعها، وأولوية الإدارة في مكان آخر. والكونغرس سيذهب إلى مزيد من التشدّد حيال لبنان في ظل المعادلة الراهنة. ما هو لافت في كلام المتابعين من واشنطن، إشارتهم إلى انعكاس التحولات في لبنان على الاقتصاد اللبناني الذي يستبعدون أن يتحسّن نظراً إلى استمرار الانكفاء عن قدوم الاستثمارات، مما سينعكس، مستقبلاً، مزيداً من نقمة المجتمع اللبناني على حكومته.
التوقعات تذهب إلى حدّ تحقيق حلفاء إيران انتصاراً آخر في الانتخابات النيابية العراقية. العمل الفعلي الأميركي يرتكز على إضعاف إيران الذي من شأنه أن يُضعف كذلك أذرعها العسكرية في المنطقة سواء في سوريا أو العراق أو اليمن، لكنها عملية لن تكون سريعة بل ستأخذ وقتها الذي قد يمتد لبضع سنوات مقبلة.
الخروج من الاتفاق النووي الإيراني هو الخطوة الأولى، ويُجسّد العودة إلى المربع الأول. والنموذج الذي يريد ترامب أن يُكرّسه، في حال نجاحه، هو نموذج كوريا الشمالية. فالوسيلة التي استخدمها ويريد معاودة تكرارها هي التلويح بالقوة بالتوازي مع العقوبات المُتشدّدة والجدّية، لكن ذلك يحتاج من الحلفاء العرب وخصوصاً الخليجيين، وفي مقدمهم السعودية والإمارات ملاقاته في منتصف الطريق.
ما يُقلق المراقبين الأميركيين هو أن لا يلتقط حلفاء ترامب الخليجيين «الفرصة الثمينة» التي توفرت لهم. فاعتبار أن الرؤية السعودية التي يمثلها ولي العهد محمد بن سلمان هي أول المنتصرين من قرار ترامب لا تنطوي على مبالغة، لكنه انتصار لا يمكن أن يُترجم إلى نتائج ملموسة من دون خطوات عملية فعلية تندرج في سياق خطة المواجهة غير العسكرية التي يُشكّل تطويق إيران اقتصادياً ومالياً وتجارياً عامودها الفقري. وتلك مهمة تلعب فيها الإمارات دوراً حيوياً كما غيرها من الدول، من أجل دفع طهران إلى التخلي نهائياً عن برنامجها النووي ومن أجل ضبط برنامج صواريخها البالستية التي يمكن تطويرها لتحمل رؤوساً نووية ومن أجل وقف تمددها وإرجاعها إلى داخل حدودها.
الاستراتيجية متشعبة الأضلع، ففترة السماح التي تمتد من 90 إلى 120 يوماً لبدء تنفيذ كامل العقوبات الأميركية هي الفترة الممنوحة للحلفاء الأوروبيين من أجل تسوية أوضاعهم، ولا سيما في ما خص الاتفاقات المعقودة مع إيران أو النجاح في التوصل لإقناع طهران بالعمل على اتفاق جديد انطلاقاً من السقف الذي رسمه ترامب والذي لم يعد بإمكان الأوروبيين النزول تحته، ولا سيما حيال نهائية وقف البرنامج النووي ووقف الدور التخريبي لها في المنطقة.
الرهان على إمكان تحقيق نجاحات ينطلق من إدراك وضع طهران الاقتصادي الداخلي والتململ الشعبي فيها، وما قد تفضي إليه العقوبات الحالية والإضافية عليها من إضعاف النظام وزعزعته، وإن كان من المبالغة الحديث عن إمكان إسقاطه. كما أن الرهان في مسار إضعاف إيران يطال موسكو، التي ستجد نفسها، عاجلاً أم آجلاً، في عنق الزجاجة، إذ تشكل المواجهة الإسرائيلية - الإيرانية في سوريا أولى تجلياتها، حيث سيكون عليها المواءمة بين استقرارها الداخلي والاقتصادي والأمني والاجتماعي وبين مصالحها وتحالفاتها، ولا سيما مع إيران ودورها وحجمها مع ميليشياتها في سوريا، انطلاقاً من تأثير ذلك على أمن إسرائيل، ذلك أن إظهار العجز عن إمكان لجم الحليف الإيراني و«حزب الله» في سوريا سيترك تبعاته على علاقتها مع الحليف الإسرائيلي.
وعلى الرغم من المخاوف من ارتدادات المواجهة الإسرائيلية - الإيرانية المفتوحة على لبنان من زاوية انخراط «حزب الله» فيها، فإن الاعتقاد لا يزال يسود المراقبين بأن مصلحة طهران تقتضي بألا تخسر ما حققته على أيدي «حزب الله» من إنجازات في لبنان من خلال «دعسة ناقصة»، وألا تغامر بخسارة كبيرة لها في سوريا، على أقله في المدى المنظور، بانتظار التيقن من حسابات الربح والخسارة!.