ما أصعب أن تتحول الثورات إلى أنظمة حكم. أن تنتقل من المواجهة المفتوحة مع شعبها في الداخل، ومع جيرانها في الخارج، وتبدأ عملية البناء والاهتمام بالمدرسة والمستشفى والعناية بالاقتصاد، وبمشاريع المستقبل، بدلاً من التعلق بإرث الماضي وأحقاده.
أربعون سنة مرّت على الانقلاب الإيراني الذي قاده الخميني. ورغم مرور هذه السنوات الطويلة لم تتحقق الراحة ولا الأمن للإيرانيين في الداخل، ولا للشعوب المحيطة بهم. تصدير ثورات وشعارات وحروب متنقلة وميليشيات تتجول من بلد إلى آخر حاملة معها مشاريع التوسع وتفكيك الكيانات.
في طهران سمعنا في الأيام الأخيرة عبر الشاشات مواطنين إيرانيين يعلنون رغبتهم في مغادرة بلدهم، والانتقال إلى أي بلد آخر صالح للعيش ومستعد لاستقبالهم، وذلك في ظل المخاوف السائدة في شوارع إيران من ذيول انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي.
لا يمكن القول إن الشعب الإيراني لم يجرب حظه لإنقاذ بلده من المصير الذي حلّ به. محاولات تغيير سياسية كثيرة حصلت في الداخل، وجاء رئيس أو أكثر يحمل معه لغة الانفتاح والتغيير، وكلنا نعلم كيف انتهى هؤلاء. والأمر نفسه مع الجيران الذين سعت دولهم إلى إقامة علاقات طبيعية مع إيران، ولم تفلح تلك المحاولات سوى في فتح الباب أكثر أمام إمعان «الثوريين» في التدخل في شؤون هذه البلدان، معتقدين أن الانفتاح هو دليل ضعف وخنوع أمام القيادات الإيرانية.
ثم كانت المحاولة الدولية التي قادها الرئيس باراك أوباما للتطبيع مع إيران من خلال الاتفاق النووي، الذي كان يفترض أن يوفر الفرصة لها لتتحول إلى دولة «طبيعية» في محيطها، وفي علاقاتها مع العالم. والحقيقة أن هذا الاتفاق لم يفشل لأن الرئيس دونالد ترمب قرر الانسحاب منه وإعادة فرض العقوبات على طهران. هذا الاتفاق فشل قبل ذلك بكثير، لأنه عجز عن تحقيق الغاية التي كانت في ذهن المسؤولين الغربيين الذين أنجزوه، وفي طليعتهم أوباما. لقد عجز الاتفاق النووي ببساطة عن إقناع إيران بالتعامل مع محيطها مثلما تتعامل معظم الدول فيما بينها على قاعدة الندية والاحترام المتبادل للمصالح، وتتعامل مع شعبها على قاعدة الحقوق والواجبات المتساوية.
طبعاً كان البرنامج الإيراني النووي هو الدافع الأساس إلى جلوس الدول الغربية مع القادة الإيرانيين. فقد كان الشعور أن ضبط هذا البرنامج عند الحدود السلمية المقبولة تحت مراقبة دولية مشددة، وتحرير اقتصاد إيران من آثار العقوبات، والسماح بإعادة نفطها إلى السوق العالمية، سيكون كل ذلك كفيلاً بدعم زعماء التيار «المعتدل» بعد نجاحهم في التوصل إلى الاتفاق، وضمان قيام «إيران جديدة» يمكن مع الوقت أن تكون أكثر انفتاحاً على العالم، وأكثر واقعية وأقل عداء في تعاملها مع جيرانها ومحيطها.
طبعاً لم يتم النص على هذا الطموح الغربي في فقرات الاتفاق. إنما كان هذا التوقع يقوم على فكرة أن انتصار الجناح الذي كانت الدول الغربية الأربع تتفاوض معه، هو جناح «الاعتدال» الإيراني، ممثلاً بالرئيس حسن روحاني وبوزير الخارجية محمد جواد ظريف، وكان الافتراض أن تمكين هذا الفريق من إنجاز الاتفاق سوف يسهّل طريقه في الداخل، ويوسّع قاعدته الشعبية في وجه العقبات التي كانت تواجهه وما تزال، وهي العقبات التي وضعها في وجهه «الحرس الثوري» تحت رعاية المرشد علي خامنئي.
غير أن قادة التيار المتشدد ظلوا ينظرون إلى الدور الذي لعبه كل من روحاني وظريف على أن الهدف منه هو إنقاذ النظام من الانهيار، وليس إعادة إنعاشه والسماح له بالانفتاح على أسس جديدة. ببساطة تم التعامل مع روحاني ووزير خارجيته على أنهما مجرد أداتين. فطالما أن علي لاريجاني وقاسم سليماني غير مقبولين وغير مرحب بهما للقيام بمهمات التفاوض، وكشف الوجوه الباسمة أمام الغرب، فلتكن هذه المهمة من حصة روحاني وظريف، على أن يبقى القادة الفعليون ممسكين بالسلطة الفعلية في الداخل.
أما على الصعيد الإقليمي، فقد استمر الدور الإيراني ممثلاً بالتدخلات الخارجية من خلال «الحرس الثوري» كما هو عليه وأكثر. التدخل الإيراني في سوريا دعماً لنظام بشار الأسد تضاعف بعد التوصل إلى الاتفاق عام 2015، سواء بحجة الحرب على الإرهاب، أو بحجة الرد على «المؤامرة» التي تستهدف مشروع «المقاومة»، وتوسع هذا الدور الإيراني كذلك في لبنان والعراق، وفي اليمن تطور إلى دعم مكشوف ومباشر للحوثيين. وكل ذلك فيما النظام الإيراني يتمتع بغض نظر غربي كامل عما يفعل في المنطقة، تحت غطاء الاتفاق النووي.
والآن ومع التوقعات بانهيار هذا الاتفاق، رغم مساعي الدول الأوروبية الثلاث (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) الحريصة على مصالحها الاقتصادية في إيران لإعادة إنعاشه، يمكن القول إن الممسكين بمفاتيح الثورة في إيران سوف يصبحون أكثر تشدداً في الداخل، وأكثر عداء مع الخارج. فهؤلاء يقرأون كل قرار يتخذ ضدهم على أنه مشروع «مؤامرة». وقد أكدت أحداث الأيام الأخيرة أن إيران سترد على إلغاء الاتفاق بتصعيد عمليات «الحرس الثوري» في سوريا، ورفع حدة المواجهة مع إسرائيل عبر جبهة الجولان. كما أعد الإيرانيون من خلال أذرعهم الممتدة في لبنان والعراق لتشديد القبضة على مؤسسات الحكم في البلدين، في محاولة لكسب الشرعية السياسية، مستفيدين من فرصة الانتخابات النيابية. ففي لبنان حقق «حزب الله» انتصاراً كبيراً بالسيطرة على الأكثرية الساحقة للمقاعد الشيعية في المجلس النيابي الجديد، بعدما منع كل الأصوات المعارضة في مناطق سيطرته. والأمر نفسه يجري في العراق حيث دفعت إيران هادي العامري قائد «منظمة بدر»، أحد فصائل «الحشد الشعبي»، إلى تشكيل ائتلاف أطلق عليه شعار «ائتلاف الفتح» لخوض المعركة التي تبدأ غداً أمام رئيس الحكومة حيدر العبادي.
رغم ذلك، تجد طهران نفسها في وضع صعب الآن. لا هي قادرة على الخروج من الاتفاق النووي، رغم تهديد المرشد علي خامنئي بـ«إحراقه» إذا انسحبت أميركا منه، كما أن إيران محرجة في استمرار الدفاع عن الاتفاق، كي لا تبدو كأنها الطرف الأكثر تمسكاً به. من هنا جاء إعلان الرئيس الإيراني أن أمام الدول الأوروبية «فرصة محدودة» لإنقاذ الاتفاق، فروحاني يدرك أن سقوط الاتفاق النووي يعني نهاية المشروع الذي دافع عنه منذ توليه الرئاسة، وبالتالي نهايته السياسية. غير أن روحاني مكبل بضغوط وقرارات المرشد الأعلى الذي عاد للتأكيد أنه لم يكن مقتنعاً بالاتفاق النووي منذ البداية، بسبب ما وصفه بالعداء الغربي لإيران. كما كان خامنئي صريحاً في تشكيكه بنوايا الحكومات الأوروبية، وطلب من روحاني وحكومته الحصول على «ضمانات عملية» من تلك الحكومات للموافقة على الاستمرار في الاتفاق.
بين مطرقة العقوبات وبين سندان «الحرس الثوري» يبدو الشعب الإيراني الضحية الوحيدة لهذه المواجهة المفتوحة التي تنذر بعواقب خطيرة على إيران وعلى المنطقة، إلا إذا ظهر عاقل من مكان ما، وأحسن إدارة هذه المرحلة. لكن من أين تأتي بالعقلاء في مواجهة كهذه تتحكم فيها أهواء المغامرين؟