أمّا وقد هدأت العاصفة، وسارَع الجميع إلى إحصاء الخسائر والأرباح، تبقى ماثلةً صورةُ الوزير جبران باسيل على حِصانِه، مرتدياً الدرع الفولاذية، ممتشِقاً السيف، ومنازلاً كلَّ شيء أمامه والناس، دائراً في دوّارة الدوائر من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، مروراً بالجبل وبيروت والبقاع. ويبقى السؤال مُحيِّراً: لماذا قرَّر باسيل خوضَ المعارك دفعةً واحدة في مواجهة الجميع؟ وهل حقَّق انتصارات حقيقية أم نازَع طواحين الهواء؟
في تقدير العارفين أنّ باسيل لم يكن ليغامرَ بعلاقاته مع حلفائه في «التفاهم» - «حزب الله»- إلى حلفائه في «التفاهم الآخر» - «القوات اللبنانية»- إلى حليفه في «التفاهم الآخر»- الرئيس سعد الحريري- لولا أنّه وجد في الأمر ما يستأهل المغامرة. وهذه «الفَجعنة» في الحصول على المقاعد النيابية - كما وُصِفَت - ليست عبثية، ولها ما يبرِّرها عند باسيل.
بدا باسيل زائدَ الحركة (hyperactif) سياسياً، وفي حال غليانٍ خلال الانتخابات. و»مِنَ الآخِرْ»، أرادها فرصةً تجعله «الزعيم الماروني»، بالمعنى المطلق، أي بلا منازع، لا في داخل «التيار» ولا مسيحيّاً.
والمسألة ليست متعلّقة فقط بتصوير أرجحيةٍ لـ»التيار الوطني الحرّ» على «القوات اللبنانية» في البيئة المسيحية، بل أيضاً إظهار الفارق الشاسع بين زعامتِه وزعامة الحليف الآخر لـ«حزب الله» النائب سليمان فرنجية، الذي يشكّل المنافسَ الأقوى على رئاسة الجمهورية. وفي اختصار: أراد باسيل أن يكونَ «الجنرال عون» الآخر.
مع انتهاء أزمة الفراغ الرئاسي، في تشرين الثاني 2016، وصَل عون إلى بعبدا متجاوزاً منافسَين اثنين قويَين، الدكتور سمير جعجع كزعيم مسيحي وفرنجية كحليف لـ«حزب الله»:
1 - اليوم، بات جعجع يشكّل منافساً أقوى لباسيل على الزعامة والشعبية المسيحية. لكنّه، في ظلّ المعطيات السياسية القائمة على الأقلّ، لا يشكّل منافساً قوياً على رئاسة الجمهورية، بعدما اقتنَع الشريك السنّي، الحريري، بأنه لا يمكن أن يكون هو في رئاسة الحكومة وأن يكون جعجع في رئاسة الجمهورية. فليس منطقياً أن يكون رئيسا الجمهورية والحكومة من 14 آذار.
وإذا بقيَ الحريري في رئاسة الحكومة، فسيتمّ استبعاد فكرة وصول جعجع إلى الرئاسة. وستتمّ الصفقة مع مرشّح من 8 آذار... مبدئياً. وفي انتخابات 2016، وقع الاختيار على عون لأنّ الأمر يناسب «حزب الله»، وإن لم يكن خياراً مثالياً. ففي أيّ حال، «الجنرال»، مهما ابتعد، سيبقى ضِمن جدران «مار مخايل» لا سواه.
2 - يشكّل فرنجية منافساً حقيقياً في رئاسة الجمهورية، ولكن ليس في الزعامة على المسيحيين، لأنّ زعامته تبقى مناطقية لا مسيحية شاملة كجعجع. ومعروف أنّ غالبية القوى الكبرى، غير المسيحية، كانت - وربّما لا تزال - تفضّل التعاملَ مع فرنجية، لا مع عون في بعبدا. فالحريري اختار تسميته باكراً، وقبل تسمية عون. وبري يؤيّد وصوله، وكذلك يرى «الحزب» أنّ «هذه عَين وهذه عَين».
ويَعتقد العارفون أنّه كان دائماً أقرب إلى «ترئيس» فرنجية لولا أنّ الأمر يثير غضَب عون «غير المستحَبّ». إذاً، في الانتخابات، أراد باسيل أن يُفهِم الجميع ما يأتي: «أنا الزعيم المسيحي لأنّ القواعد الشعبية منَحتني أكبر كتلة نيابية مسيحية. وتالياً، ليس لأحد سواي أن يطالب بخلافة الرئيس عون»، خصوصاً أنّ باسيل هو أيضاً «الخليفة» السياسي لعون في قيادة تياره.
وأساساً، الحجّة التي رَفعها عون في 2016 لمنعِ انتخاب فرنجية رئيساً للجمهورية هي أنه لا يمثّل القواعد المسيحية. أراد باسيل أن تكون الانتخابات ضربة مزدوجة لجعجع وفرنجية. أمّا مواجهة بري وجنبلاط فكانت لتثبيتِ الحضور. ومواجهة الحريري كانت انتقائية. وفي النهاية، هو يتّكل على هالة عون لتوفّرَ له التغطية في إصلاح ما تَخَرَّب، ويعتقد أنّ «حزب الله» لن يتخلّى عن عون، مهما حصل.
هل الأرباح التي حقّقها باسيل في الانتخابات، في الأرقام والنتائج وفي السياسة، توازي حجمَ المغامرة التي خاضها في وجه الجميع؟
في الأرقام والنتائج، حقّقَ جعجع صدمةً لباسيل. فقد حصَد 16 نائباً «قوّاتياً صافياً»، بقوّة «القوات» الذاتية، ومن دون اللجوء إلى تحالفات سوريالية تَجمع ما لا يُجمَع. وقد واجَه جعجع، كما كلّ القوى المسيحية والمرشحين المسيحيين المستقلين، في كلّ الدوائر، ضغوطَ الترغيب والترهيب المعنوي والمادي التي مارسَتها قوى السلطة، ومحاولات العزل والشعارات المثيرة للأحقاد.
في المقابل، وعلى رغم «التفحيش»، حصَل باسيل على مقاعد لـ«التيار» موازية تقريباً. وأمّا بقية النواب فليس واضحاً إلى أيّ حدّ سيَستمرون في التحالف مع «التيار»، عندما يصِلون إلى المفترقات الصعبة. فالجميع له حساباته.
في الموازاة، استطاع باسيل أن «يفكّ العقدة»: أن يصل إلى المجلس النيابي بعد انتظار مرير. والفضل كبير للحريري. وأساساً، استحسَن باسيل قانوناً رديئاً للانتخابات لأنه يقدّم له الإغراء بدخول المجلس وتطيير اثنين من 3 منافسين تاريخيين في البترون: «القوات» وبطرس حرب والكتائب. وفعلاً، طار الأخيران.
وثمّة مَن ينظر بكثير من الاهتمام إلى الأرقام التي فاز بها الأقربون وأقطاب «التيار» في عدد من دوائر الجبل - ولا سيّما منهم شامل روكز في كسروان- الذين حلّوا في مراتب متأخّرة إجمالاً. فمِن المثير أن ينجح هؤلاء مرشحين عاديين، لا نجوماً، فيما تتألق نجومية باسيل داخل «التيار».
وأمّا في السياسة، فأدّى استخدام باسيل «كلَّ الأوراق» إلى تعميق الهوّة بينه وبين الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط. وليس مضموناً أن يقفَ «حزب الله» معه في الأزمات المقبلة. والانتخابات النيابية كانت نموذجية في تحالفِ الثنائي الشيعي. وأمّا توريط العهد في مزيد مِن المعارك فأمر يَأكل من رصيد العهد أكثر فأكثر.
البعض يقول: لكنّ باسيل يلعب ورقةً أكبر، هي تقديم أوراق الاعتماد دولياً لبلوغِه موقعَ الرئاسة. ومِن البراهين على ذلك مواجهتُه مرشّح «حزب الله» وحركة «أمل» في جبيل. فهو أراد إفهامَ الذين يَعنيهم الأمر- في الخارج - أنّ «التيار» لا يتعاون مع مرشّحٍ لـ«الحزب» حيث يستطيع ذلك. وإذا كان هذا الأمر صحيحاً، فستكون له مستتبعاته في العلاقة بين الشريكين في «تفاهم مار مخايل»، خصوصاً أنّ مرشّح «الحزب» لم يَخسر بالأصوات، بل حظيَ بغالبية ساحقة من الأصوات الشيعية، أي أنّ شيعة جبيل يؤيّدونه، لكنّه اصطدم بعقدة تقنيّة هي «الحاصل الانتخابي».
في ظلّ هذه النتائج، في الأرقام وفي السياسة، سيُقال لباسيل: أنت لستَ أقوى زعيم مسيحي، و«التيار» ليس أكثرَ تمثيلاً مسيحياً من «القوات»، أو على الأقلّ، هو ليس أكثر تمثيلاً في المجلس من «القوات» وحزب الكتائب معاً. وهذه المعادلة توقَّعها محلّلون قبَيل الانتخابات.
بعد هذه النتائج، لا يستطيع باسيل أن يرفعَ شعار الزعيم المسيحي المطلق- كما يتمنّى - كذلك لا يمكنه استتباعاً أن يطالب بأحقّية الوصول إلى بعبدا، لاحقاً. وحتى نظرية الحريري في حتمية القبول برئيس من 8 آذار ستوافق فرنجية هذه المرّة، أو ربّما سواه، ولكن لن يكون لباسيل أيُّ امتياز على سواه في رئاسة الجمهورية، خصوصاً أنّ خصومَه المسيحيين وغير المسيحيين ازدادوا عدداً وقوّة. عمّقَ باسيل خلافاته مع حلفائه القدامى ولم يَربح حلفاء جُدداً.
وقصّته تُذكِّر بالطرفةِ المتداولة عن رَجل أمضى عمرَه زاهداً بالنساء، لإيمانه بأنّه في ذلك يعمل الصالحات ويَحجز مكانَه في الجنّة. وذات يوم، على حافةِ الشيخوخة، همَسَ في أذنِه رفيقٌ له «في الصالحات»، قائلاً: «إذا لم نوفَّق في العثور على الجنّة، فسنكون أكلْنا الضرب... هون وفوق»! مع التنويهِ طبعاً بأنّ «صالحات» باسيل لا علاقة لها بالزهد بل بالطموحات!