تكامل الطيش السياسي للقيادة السياسية لسنّة لبنان، المتمثلة بتيار المستقبل، مع الطيش الانتخابي لشرائح واسعة من القواعد الشعبية لهذه الطائفة، لا سيّما في العاصمة بيروت، ليأتيا بأسوأ نتيجة انتخابية عرفتها الطائفة السنية منذ انتهاء الحرب الأهلية سنة 1990. تقلّص حجم كتلة رئيس الوزراء سعد الحريري النيابية من 35 إلى 21 نائبا. حصل حزب اللّه عمليا على 10 نوّاب سنّه يوالونه. ولعلّ فوز حزب اللّه وحلفائه (جمعية المشاريع الإسلامية) بـ 4 مقاعد من أصل 11 في أحد المعاقل التاريخية لتيار المستقبل، وأحد مراكز الثقل الرئيسية للطائفة السنية في لبنان، أي الدائرة الثانية في العاصمة بيروت، لخير دليل على حالة الانقسام والتقهقر السياسي التي تصيب سنّة لبنان، والتي ظهّرتها بشكل جليّ هذه الانتخابات النيابية.
 
وفي حركة تبتغي توجيه أكثر من رسالة في أكثر من اتجاه، لا سيما ما مفاده أنّ العاصمة العربية الرابعة أضحت رسميا بيد إيران، سارع حزب اللّه وحركة أمل، فور إعلان النتائج غير الرسمية، إلى غزو أحياء بيروت بأسراب من الدراجات النارية الآتية من ضاحيتها الجنوبية، محتفلين بفوزهم على أبناء العاصمة، ومرددين شعارات طائفية استفزازية، من قبيل أنّ "بيروت صارت شيعية".
 
يتحمّل تيار المستقبل ورئيسه، بشكل أساسي، مسؤولية الفشل في هذه الانتخابات. فاللوم يوجّه أوّلا إلى القيادة السنيّة التي وافقت، بعكس ما تقتضيه مصلحتها ومصلحة الطائفة، على "القانون المسخ"، بحسب تعبير الزعيم وليد جنبلاط، أي قانون الانتخاب الجديد الذي نصّ على نظام عجائبي من النسبية الهجينة. وقد شكّلت موافقة الحريري على السير بهذا القانون، خطوة متقدّمة في سلسلة التنازلات اللامتناهية التي دأب على تقديمها مجانا لحزب اللّه وحلفائه، والتي فشل نسبيا في إقناع جمهور تيار المستقبل بها،؛ وذلك منذ اجترح الحريري نظريّة ربط النزاع مع حزب اللّه، وقبل بالجلوس معه على نفس الطاولة في مجلس الوزراء، مرورا بالتسوية الرئاسية التي أتت بأحد خصوم الطائفة السنية التاريخيين، العماد عون، لرئاسة الجمهورية، في خريف 2016، وما تبعها أيضا من تنازلات في التعيينات الإدارية على حساب الطائفة السنية.
وقد خلقت سياسة التنازلات هذه، التي انتهجها الحريري تحت شعارات الاعتدال، والانفتاح، والوسطيّة، والاستقرار، شرخا بين تيار المستقبل وقواعده، لا سيما في مدن الساحل الكبرى ذات الأغلبية السنية؛ خصوصا أن الطائفة السنية تتحمّل، جراء هذه السياسة، العبء الأكبر من ثمن استقرار البلد، رغم عدم كونها طائفة مسلّحة، كما هو الحال مع الطائفة الشيعية وحزب اللّه. وقد ترجم هذا الغضب ضد تيار المستقبل في صناديق الاقتراع.
 
وهنا تحديدا، يأتي دور الطيش الانتخابي لشرائح واسعة من الناخبين في الطائفة السنية، ليلعب دوره في النتيجة السيئة. فالكثير من الناخبين السنّة، المعارضين لحزب اللّه، أرادوا بنفس الوقت الاعتراض على سياسة التنازلات التي اتبعها تيار المستقبل. وقد تمّ ذلك إمّا بمقاطعة الانتخابات (نسبة مرتفعة)، أو بالتصويت لغير لوائح المستقبل. ولكن، في كلتا الحالتين، لم يأخذ في الاعتبار هؤلاء، أنّه في ظلّ نظام النسبية، تصبح لوائح حزب اللّه هي المستفيدة الأولى من امتناع السنّه عن التصويت، أو من تشتيت أصواتهم بين عدّة لوائح غير قادرة على تجميع الحاصل الانتخابي. فكانوا بتصرفهم العاطفي الغضوب، غير الحكيم وقليل التبصّر هذا، وبرفضهم الاختيار بين "أهون الشرين" إن صح التعبير، كمثل الذي يطلق النار على رجله، أو الذي يقطع جذع الشجرة الذي يجلس عليه.
 
هنا لا بد من الإشارة إلى الدور الذي لعبته المثاليات، والشعارات البراقة غير الواقعية، والأدبيات النخبوية، التي لا تخلو من طفرة في الرومانسية السياسية والأحلام الوردية، التي لامست حد المراهقة لا بل الطفولة السياسية في كثير من الأحيان، في إغراء الناخبين السنّة، تحديدا في بيروت 2، وفي تشتيت الأصوات. ولعلّ أبرزها كان شعار "تغيير الطبقة السياسية"، الذي تبنّته بعض لوائح ما يسمى بالمجتمع المدني، أو المستقلين، أو ما شاكلهم. ولكن غاب عن ناخبي هذه اللوائح أنهم ليسوا في دولة من دول شمال أوروبا، حيث يتنعّم الفرد بترف المواطنية والتصويت لمن يشاء، دون الحاجة لقطع الطريق على وصول ميليشيا أقوى من الدولة، تأتمر بأوامر قوّة إقليمية تنتهج سياسة توسعية في الإقليم، والحؤول دون نيلها للأكثرية في مجلس النواب، مما من شأنه لو حصل، أن يساهم في تعاظم قوتها السياسية، لا سيما من خلال تسهيل عملية تشريع سلاحها وتدخلاتها العسكرية في بلدان الجوار. غاب عن هؤلاء أنهم ناخبون في بلد يقف على كف عفريت، ممكن أن تندلع الحرب على حدوده بأي لحظة، بسبب وجود هذه الميليشيا وصلاتها الإقليمية.
وفي هذا السياق تحديدا، ما أشبه ما يحصل اليوم في لبنان، بما حصل في سوريا خلال حقبة خمسينات وستينات القرن الماضي، أو بما حصل في إيران إبان الثورة الإسلامية سنة 1979:
 
في سوريا، تحكّمت مثاليات تلك الحقبة، كالاشتراكية، والوحدة العربية، والتقدمية، والعلمنة، ونبذ الطائفية، ومحاربة الفساد والإقطاع، والمساواة الاجتماعية، بعقول شخصيات سنية مثل أكرم الحوراني، وصلاح الدين البيطار، وغيرهم. وقد أعمتهم دوغما المثاليات، وقلة الواقعية، عن رؤية ديناميكيات المكونات الأخرى في المجتمع السوري، لا سيما الأقلية العلوية، في تحقيق توقها للوصول إلى السلطة.
 
لم يدرك هؤلاء المثاليون، إلا بعد فوات الأوان، أن مجموعة طائفية، تعرف باللجنة العسكرية، تشكلت من ضباط (كمحمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ أسد، وغيرهم)، ينتمون إلى الحزب الذي أسّسه عفلق وبيطار والحوراني بأنفسهم، وأنها امتطت تدريجيا هذه الشعارات البراقة والجامعة التي بشّر بها مؤسسو البعث، وتبنّتها شرائح واسعة من البرجوازية السنية في المدن السورية الكبرى؛ ولكن من أجل تحقيق مشروع فئوي، قوامه غلبة طائفة أقلوية على باقي طوائف وأطياف وأحزاب المجتمع السوري.
 
 
وعندما تمكنت هذه المجموعة الطائفية من نقاط القوة في الحزب والدولة، أول ما قامت به كان إقصاء هؤلاء المثاليين عن السلطة، وتفردت تدريجيا بالحكم منذ ١٩٦٣ حتى اليوم. وقد تم بعد ذلك تحوير هذه المثاليات، وإفراغها من مضمونها، بطريقة كي يصبح كل ما هو سني مرادف لكلمة رجعي، وكل ما هو غير سني مرادف للتقدمية والتطوّر. حتى انه بعد عقود من ذلك، تمّ رفض طلب دفن أكرم الحوراني في بلده، من قبل من عادى الحوراني لأجهلم ولمصالحهم، لا سيما باسم الاشتراكية وتوزيع الأراضي على الفلاحين، الكثير من أبناء طائفته ومصالحها في التركيبة الاجتماعية والسياسية السورية. ومنهم حتى من قد تمت تصفيته في الخارج، كصلاح الدين البيطار، الذي اغتيل في باريس سنة ١٩٨٠، بعد أن شرع بإصدار صحيفة "الإحياء العربي" المعارضة لنظام الأسد.
 
 أمّا في إيران، فيروي أبو الحسن بني صدر، وهو أوّل رئيس للجمهورية الاسلامية الإيرانية، في كتابه "مؤامرة آيات اللّه"، كيف أنّ ملالي إيران قاموا، في سبيل التفرّد في السلطة، بالتصفية التدريجية لمن شاركوا معهم في إسقاط حكم الشاه، من يساريين، وعلمانيين، وحتى إسلاميين غير مؤمنين بولاية الفقيه، حتى تمكنوا من إزاحتهم نهائيا من السلطة، ومن التخلص من أحلامهم في بناء دولة ديمقراطية، لا ثيوقراطية.
 
 
خلاصة القول إنه في السياسة، الواقعية تغلب دائما المثالية، وأن الشعارات البراقة والأحلام الوردية جميلة، ولكنها عند الجدّ، لا تغني ولا تسمن من جوع. فما بالك لو تجمّعت تراكمات هذه الخبرات المكتسبة في المثالين المذكورين آنفا، أي من قبل طرفي محور الممانعة، في قوّة سياسية واحدة، كما هو حاصل مع حزب اللّه في لبنان.
 
 
اليوم، لا تنفع المكابرة من قبل الحريري وتياره، ولا الهروب إلى الأمام، باصطناع الفرح بفوز كبير لم يتحقق. كما لا تنفع دعوة تيار المستقبل قواعده الشعبية إلى بيت الطاعة السياسي كالنعاج الضالة، لإعادة الالتفاف حول الحريري. لا بد من وقفة من قبل الجميع لتقييم ما جرى، ولإعادة الحسابات. وعلى القيادة السياسية أن تبادر في رأب الصدع مع جمهورها. وقد يشكّل إعادة طرح موضوع السلاح غير الشرعي من قبل المستقبل، خصوصا على ضوء غزوة الدراجات النارية الأخيرة في بيروت، عاملا مهما لإعادة اللحمة مع جمهوره.
 
 
يمكن لتيار المستقبل أن يعتبر من تجربة النهضة في تونس، حتى ولو كانت المقارنة بين الحالتين دونها صعوبات جمة. عرف النهضة كيف يستعيد ثقة ناخبيه بعد أن كان فقد جزء كبيرا منها، وأن يكسح في الانتخابات البلدية التونسية، في اليوم نفسه الذي شهد المستقبل تقلّصا تاريخيا في عدد نوابه في البرلمان اللبناني.
 
 
يبقى السؤال الأهمّ. هل سيقوم المستقبل ورئيسه بإعادة الحسابات هذه؟ على الأرجح أنه، على ضوء سلسلة التجارب السابقة، كلا، لن يفعل.