تجرأ ترامب على إلغاء الاتفاق النووي مع إيران بعد تردد دام سنة وضغوط من الأوروبيين للحؤول دون ذلك. فعاد الملف النووي الإيراني إلى نقطة الصفر.  بل بات أكثر تعقيدا من السابق، بعدما ربط ترامب الملف بتسلح إيران الصاروخي البعيد المدى وتدخلها في أزمات المنطقة. أي لم تعد القضية قضية تخصيب اليورانيوم لما دون حد التسلح النووي، بل قضية استراتيجية تتصل يإيران النظام ودوره وانتشاره في المنطقة وتسببه بزعزعة استقرارها، بعدما ولَّد لدى دول دول المنطقة شعوراً بالتهديد، وفي مقدمها السعودية وإسرائيل.

نجح أوباما في منع إيران من التسلح النووي عبر وضع آليات تفتيش دقيقة وربما قاسية، حين عزل الموضوع النووي عن القضايا الأخرى وحوله إلى موضوع تقني خالص منفصل عن أية اعتبارات سياسية. لكنه خسر استراتيجياً عندما تغاضى عن أداء إيران الإقليمي، كثمن غير معلن لتشجيع الإيرانيين على الصفقة. هي مقايضة كانت لصالح إيران، لأن الاتفاق نص على مدة زمنية قصيرة، مقابل استعادة إيران لعافيتها الاقتصادية وخروجها من عزلتها الدولية الخانقة، والأهم من ذلك كسب الوقت الكافي لاختراق سريع في قلب المنطقة العربية وترسيخ نفوذ ثابت فيها، مكن إيران من أن تكون شريكاً رئيسياً في صناعة السياسات العربية نفسها.

فرنسا وألمانيا، تمسكتا بالاتفاق، لاعتبارات اقتصادية وتجارية مع إيران وصلت إلى عشرات مليارات الدولارات. أي تمسكتا به لا لقناعة منهما بجودة الاتفاق واسهامه في استقرار المنطقة، بل لحماية استثماراتهما الواعدة في إيران. وهي استثمارات بدت للبعض استدراجا من إيران لهما (فرنسا وألمانيا)، لترسيخ الفصل بين النووي وسلوك إيران الإقليمي والتمسك بالاتفاق المبرم.  إلا أن الدولتين لا تملكان القدرات الاستخباراتية واللوجستية وحتى التقنية لرعاية الاتفاق ومراقبة بنوده. أما روسيا والصين فكان دفاعهما عن الاتفاق فاتراً، بحكم أن وقوفهما إلى جانب إيران لا يوازي الأعباء والخسائر المترتبة على هذا الدعم، وينظران إلى طموحاتها الإقليمية وبنيتها الأيديولوجية بكثير من الريبة. ما يعني أن الانسحاب الأمريكي من الإتفاق النووي هو سقوط حتمي له.

الأهم هنا الأثر السياسي لإلغاء الاتفاق النووي داخل إيران.  فالإتفاق كان ثمرة جهد رئاسة روحاني وفريقه، أي نتاج التيار الإصلاحي الذي رفع لواء إخراج إيران من عزلتها ورفع العقوبات عنها، باعتماد الطرق الدبلوماسية لمد الجسور مع الغرب.  فوصول روحاني إلى السلطة لم يكن فقط استجابة لمزاج شعبي أرهقته سياسات مواجهة عقيمة، بل كان حاجة نظام ولاية الفقيه نفسه الذي وصل إلى الطريق المسدود في معالجة أزمته النووية، ولم تعد وسائل صموده الايديولوجية تفيده بشيء في رفع الضائقة الاقتصادية الخانقة عليه. ما اضطره إلى سحب القوى المتشددة إلى الوراء، ووضع الإصلاحيين في الواجهة للقيام بمهمة الخلاص.

بيد أن إيران أساءت تأويل الاتفاق حين فسرته انتصاراً، وتصرفت إقليمياً ودولياً على أساسه.  مستفيدة من الفصل بين التخصيب وأي مضمون سياسي، أخذت إيران تعمق حضورها داخل المجال العربي، معتبرة هذا الحضور بمثابة مقايضة وجائزة لها مقابل توقيعها الاتفاق النووي. فعمدت إلى توسيع خارطة توزع شبكتها الصاروخية بعيدة المدى لتصل إلى حدود إسرائيل وحدود السعودية والإمارات، وعززت موقع وكلائهاا المحليين وأجهزتهم بكل عتاد القوة، لتصبح شريكة فعلية في صناعة القرار السياسي في كل من اليمن والعراق وسوريا ولبنان.

السلوك  الإيراني كشف أمرين:

أولهما، أنه عرَّض استقرار المنطقة الأمني والمجتمعي إلى الاهتزاز، بل وضعها على شفير حرب مع إسرائيل، وهو أمر يخلط أوراق المنطقة ويورط الدول الكبرى بأحداث وأعباء مالية وعسكرية صعبة.

ثانيهما أنه كشف حقيقة النظام الإيراني نفسه، لجهة عدم أصالة الرئاسة الإيرانية واستقلالها في اتخاذ القرار وبناء السياسات، وأن القرار الفعلي في مكان آخر.  فحين قصد روحاني إبرام الاتفاق النووي كان غرضه اندماج إيران في منظومة السوق العالمي، في حين اعتبرتها مؤسسة ولاية الفقيه فرصة سانحة للتمدد وتعزيز المواقع والنفوذ، استجابة لتطلعات أيديولوجية عابرة لحدودها.  وهي وضعية أفقدت الثقة بمؤسسة الرئاسة الإيرانية دولياً، وكشفت أن بنية النظام ومؤسساته لا تقوم وفق قيم الديمقراطية وإجراءاتها، بل وفق تفويضات "إلهية" مطلقة في الحكم مرَّكزة بيد الولي الفقيه.

الإتفاق النووي كان اختباراً للنظام الإيراني، ليس في درجة تجاوبه مع المنظمة الدولية للتفتيش النووي، بل في تعديل سياسات إيران وضبط سلوكها الإقليمي. وهو أمر أخفقت قوى الإصلاح في تحقيقه، ما تسبب بفشل مشروعها أمام الشعب الإيراني، ويدفع العالم إلى الاستخفاف بمؤسسة الرئاسة الإيرانية وأجهزتها، ويطرح علامة استفهام جدية حول جدوى اعتماد الانتخابات وسيلة للتغير في إيران.