الإندماج الوطني مظلة تحمي الجميع

عندما يغيب المشروع الوطني الجامع، الذي يؤسس لحالة عميقة من الانصهار الاجتماعي والوطني، تبرز حينها كل العصبيات الموجودة في المجتمع.
وتكون هذه العصبيات التقليدية، هي الحالة الطبيعية، في حالة غياب المشروع الوطني القادر على صهر الجميع في بوتقة وطنية متحدة.
وجميع الأوطان والمجتمعات، لا تتشكل غالباً من مجموعة واحدة أو مكوّن واحد، وإنما هي تتشكل من مزيج اجتماعي وثقافي متحد في إطار وطني واحد من جراء وجود المشروع الوطني الجامع والقادر على خلق حالة من الانسجام والتوافق التي تؤدي إلى وحدة وطنية راسخة.
وعندما ننظر إلى واقع المجتمعات الإنسانية التي تعيش في حالة إنعدام الوحدة والتلاقي بين مختلف تشكيلاتها وتعبيراتها،ففي هذه الحالة سنلاحظ أن غياب المشروع الوطني الجامع لكل التعبيرات والتشكيلات، هو السبب الأساس الذي أدى إلى بروز حالة الانقسام وعدم التلاقي بين مختلف التشكيلات والتعبيرات.
لذلك فإننا نرى أن الوحدة والانسجام الداخلي بين مختلف المكونات، ليست وليدة للقيم الأخلاقية، وإنما هي نتاج طبيعي لوجود مشروع وطني واحد، يسعى عبر حالات عديدة لبناء شخصية وطنية واحدة من خلال خصائص ثقافية واحدة، قادرة على صهر الجميع. بحيث تكون هذه الخصائص هي التي تحمي حالة الوحدة وتمنع بروز حالة الانقسام الاجتماعي والسياسي، وعندما يغيب المشروع الوطني الجامع الواحد، فإن الأثر السلبي المباشر لذلك، هو بروز كل العصبيات المذهبية والطائفية التاريخية التقليدية لكل المواطنين. و عندها تكون هذه العصبيات هي البديل الاجتماعي والوطني عن غياب المشروع الوطني الجامع.

إقرأ أيضًا: الشعبوية في الساحة السياسية
فالعصبيات التقليدية هذه لا تنمو في المجتمعات بالصدفة، وإنما هي وليدة ظروف ونتاج غياب الرؤية الجامعة.
وحينما تنمو العصبيات؛ تتضاءل كل إمكانات التلاقي والتوحد على أساس وطني واحد.
فالمجتمعات العصبوية، حسب تعبير المفكر عبدالإله بلقزيز، تعاني من عسر حاد في الاندماج بين الجماعات والمكونات على النحو الذي تتضاءل فيه العصبوية لعلاقات غير عامة إلى حدود الزوال والاضمحلال، أي إلى حيث تقوم علاقات المواطنة والولاء للكيان والدولة مقام أي علاقة أو ولاء آخر، وليس هذا العسر الحاد في الاندماج الاجتماعي والوطني ما يتحمل المجتمع الأهلي العصبوي مسؤوليته على نحو رئيس ومباشر، وإنما هو نتاج عدم قدرة الجميع على توليد دينامية توحيد وتجانس في النسيج الاجتماعي الذي ينشأ عنها ذلك الاندماج الاجتماعي، وتتفكك الروابط العصبوية والتقليدية التي تمنع التعالي على الانتماءات التقليدية الضيقة وذات الشحنة العصبوية التي تقف على الضد من حالة الوحدة والتلاقي لصالح شخصية وطنية واحدة، يتعالى الجميع فيها على عصبياته التقليدية لصالح عصبية وطنية واحدة قادرة، من خلال هذه العصبية الوطنية الواحدة، على مواجهة كل التحديات والمشاكل.
وكل هذا يتطلب بطبيعة الحال الالتفات إلى أهمية الانصهار الاجتماعي لكل المواطنين، لأن حالة التنوع الديني والمذهبي والعشائري، الامر الذي يفضي إلى وضع الحواجز بين جميع مكونات الوطن الواحد.
ولا قدرة فعلية لمنع هذه الحواجز، إلا ببناء مشروع وطني واحد.. هذا المشروع الوطني الجامع، هو الذي يدفع الجميع إلى التعالي على انتماءاتهم التقليدية لصالح الانتماء الوطني الواحد والجامع لكل أبناء الوطن بصرف النظر عن أصولهم التاريخية أو الاجتماعية.
وعليه فإن حقائق التنوع الديني أو المذهبي أو العرقي أو ما أشبه، ليست حالة سلبية، وإنما هي من مصادر الثراء المعرفي والاجتماعي.
وتكون هذه الحقائق حالة سلبية، حينما تتوقف إرادة الاندماج بين المواطنين. فتبرز من جراء هذا التوقف أو الغياب كل العصبيات التي تبرز الهويات الفرعية سواء كان لها عمق اجتماعي أو لم يكن لها.
وهذه الهويات الفرعية ومتمماتها النفسية والسلوكية والاجتماعية، هي المعنية بتكريس الحواجز بين أبناء الوطن الواحد.
فالتنوع الاجتماعي لا ينتج الحاجز الوطني، إلا في حالة غياب المشروع الوطني الجامع والقادر على تذويب كل الفروقات لصالح الوحدة الوطنية.

إقرأ أيضًا: لا یعرف المعاناة إلا مَنْ كابدها
وعليه فإن الاندماج الوطني، ليس وليد الصدفة، كما أنه لا يتحقق بالقهر والقوة، وإنما هو وليد مشروع وطني متكامل يستند إلى العدالة والمساواة، ومن هنا يأتي التطبيق الفعلي والعملي لاتفاق الطائف كمدخل لتكريس المشروع الوطني.
والعصبيات التقليدية ومتمماتها، تقف موقفاً مضاداً للاندماج الوطني والاجتماعي، لذلك ثمة ضرورة دائمة في كل المجتمعات المتنوعة والمتعددة إلى محاربة كل العصبيات لأنها تغذي حالة تكريس الحواجز بين المكونات وتمنع الاندماج الوطني بكل مستوياته.
فلا اندماج وطني في ظل العصبيات وبروزها في الواقع الاجتماعي، ومن يبحث عن الاندماج الوطني، عليه أن يقف ضد كل العصبيات في المجتمع.
وإن السبيل لتقوية الاندماج الوطني هو:
المواطنة بكل أطرها القانونية والأخلاقية، هي مصدر الحقوق والواجبات. بحيث تكون المواطنة هي العنوان الوحيد الذي ينبغي أن تحترم وتراعى على كل المستويات.
إن تفكيك كل العصبيات التي تكرس الانتماءات التقليدية أو تمنع جعل المواطنة هي القاعدة العريضة للحقوق والواجبات، هي اولى الاولويات الوطنية.
إن إشاعة ثقافة الحوار والوحدة والتسامح، والعمل على تربية الجيل الطالع في المجتمع على هذه الثقافة والقيم التي تجسر العلاقة بين مختلف المكونات والتوجهات.
أعتقد أن هذه المفاهيم تساهم في تكريس نهج الاندماج الوطني، وتعمل على تطهير الواقع الاجتماعي الوطني من كل الميكروبات التي تحول دون الاندماج الوطني، وهكذا تصبح حالة الاندماج الوطني مظلة تحمي الجميع.