بالنسبة الى تحالف حركة «أمل» و»حزب الله»، فإنّ وصول هؤلاء الحلفاء الى المجلس النيابي يعادل في أهمّيته، وربما أكثر، فوز الثنائي بمعظم المقاعد الشيعية، إذ إنّ وجودَ شخصيات سنّية وازنة ومعارِضة للرئيس سعد الحريري في السلطة التشريعية من شأنه أن يفتح اللعبة الداخلية ببعدَيها السلطوي والسياسي على أبعاد جديدة، وأن يفسح المجال أمام تمثيل متوازن ومتنوّع في البيئة التي كان تيار «المستقبل» يشكّل أحد أبرز ارقامها الصعبة، وأحد اقوى مراكز الاستقطاب فيها.
وعليه، يكون «حزب الله» قد تمكّن عبر «اللعب النظيف» من كسر الحصار الذي كان مضروباً عليه في الوسط السنّي، بل إنّ لائحة «وحدة بيروت» التي تضمّ الحزب وحركة «أمل» و»جمعية المشاريع» (الاحباش) و»التيار الوطني الحر» نجحت في تسجيل اربعة اهداف في مرمى الحريري، على «ارضه» المفترضة في الدائرة الثانية للعاصمة، إضافة الى انتزاع رئيس لائحة «لبنان حرزان» فؤاد مخزومي مقعداً سنّياً، أي انّ رئيس «المستقبل» خسر خمسة مقاعد من أصل ستة، وهذه النتيجة المدوّية ستخضع لكثير من التحليل والاجتهاد، خصوصاً أنها أتت معاكِسة للتعبئة الحريرية التي لم تنجح في رفع نسبة الاقتراع.
والخطورة في الخطاب الانتخابي الذي اعتمده رئيسُ الحكومة هي أنه حوّل، في لحظة حماسيّة، انتخاباتِ العاصمة معركةً بين العروبة والفارسية، ما يدفع الى التساؤل عمّا إذا كانت حصيلة الدائرة الثانية تعني وفق تصنيف الحريري بأنّ نصفَ بيروت فارسي!
وما لم يقله الحريري علناً، قاله قريبون من تيار»المستقبل» في مجالسهم الخاصة، معتبرين أنّ الذي حصل في دائرة بيروت الثانية هو أقرب الى «انتحارٍ جماعي»، تمثّل في الانكفاء السنّي الواسع عن التصويت وتكاثر اللوائح المنافسة للحريري والمشتقة من نسيج سياسي واجتماعي متشابه، ما أدّى عملياً الى تبعثر الأصوات السنّية وتشتّتها، فيما حافظت الكتلة الناخبة الشيعية على تماسكها، وكذلك الأمر بالنسبة الى «بلوك» «جمعية المشاريع»، الامر الذي سمح للائحة «وحدة بيروت» بتحقيق نتيجة جيدة تمثلت في نيلها 45 ألف صوت في مقابل 60 ألف للائحة الحريري.
وأبعد من نطاق العاصمة، استطاع الثنائي الشيعي أن «يختم» مقاعد الجنوب في دائرتيه الثانية والثالثة بالشمع الانتخابي الأحمر، بعدما فاز جميع مرشحيه هناك، من دون تسجيل أيّ خرق خلافاً لبعض التوقعات المسبقة التي افترضت أنّ المقعد العائد الى قاسم هاشم أو اسعد حردان أو ميشال موسى قد يكون الخاصرة الرخوة القابلة للاختراق. وقد اكتسب الفوز في تلك الجغرافيا السياسية قيمةً إستثنائية ترتبط بالاحتضان الشعبي الواسع للمقاومة، في مواجهة محاولة عزلها ومحاصرتها من كل الجهات، الأمر الذي من شأنه أن يعزّز رصيدَ الحزب وقوّته إزاء التحدّيات الداهمة والضغوط العابرة للحدود.
والرسالة ذاتها، وببلاغة أشدّ، وجّهها تحالفُ «الحزب»- «أمل» الى مَن يهمّه الأمرُ في الداخل والخارج، عبر صناديق الاقتراع في دائرة بعلبك - الهرمل حيث تمكّنت لائحة «الأمل والوفاء» من كسب كل المقاعد الشيعية وإجهاض مسعى الخصوم الى انتزاع ولو مقعد شيعي واحد كان يساوي النواب الـ127 في حسابات البعض داخلياً وخارجياً، وهذا ما يفسّر أنّ الحزب أعطى الأولوية في إدارة المعركة الانتخابية لمنع «التسلّل» الى عقر داره البقاعي، آخذاً في الحسبان منذ البداية احتمالَ خسارته لمقعدٍ مسيحيٍّ وآخر سنّي عملاً بقاعدة النسبية.
وبهذا المعنى، لا يضع الحزب إنجازَه الانتخابي في سياق المنافسة المحلية فقط، بل هو يصنّفه اساساً في خانة الانتصار السياسي على محور إقليمي- دولي لا يخفي نيّاته في السعي الى التضييق على المقاومة والنيل منها، ولو من ثقوب صناديق الاقتراع.
الإخفاق الوحيد والموضعي للثنائي الشيعي سُجِّل في جبيل، مع خسارة المرشح الشيخ حسين زعيتر خلافاً للتوقعات التي كانت سائدة قبل الانتخابات في أوساط الثنائي. وفي انتظار تبيان أسباب هذا التعثّر بعد درسها بدقة من قبل الدوائر المختصة في «حزب الله» وحركة «أمل»، سارع الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله الى احتواء مفاعيل التنافس الانتخابي في دائرة كسروان- جبيل لمعرفته بحساسية تركيبتها، كمنطقة تفاعل ماروني- شيعي.
وواقعية نصرالله لم تقتصر على مقاربة هذا الجانب من الانتخابات، بل إنّ نصرالله بدا حريصاً على إبداء مقدار كبير من الحكمة والانفتاح في التعاطي مع فوز فريق المقاومة بعدد وازن من المقاعد النيابية، مغلّباً الاستيعابَ على الاستعلاء، وهو الذي يدرك جيداً أنّ توازنات لبنان المرهفة لا تحتمل صرفَ أيّ انتصارٍ نيابيّ في معادلات السلطة والدولة التي تستوجب التوافق حول القضايا الأساسية. المهم بالنسبة الى نصرالله هو أنّ التمثيل الواسع للثنائي الشيعي وحلفائه في السلطة التشريعية ولاحقاً في الحكومة سيسمح بحماية ظهر المقاومة من أيِّ طعنٍ أو تآمر، وما عدا ذلك يخضع حكماً لقواعد اللعبة الداخلية.
والرئيس نبيه بري، العائد حُكماً الى رئاسة مجلس النواب بقوة دفع صناديق الاقتراع، تجنّب ايضاً توظيفَ التفوّق الانتخابي الكاسح في النكايات السياسية أو في محاولة تصفية الحسابات، بل إنه استند الى الرصيد الشعبي الواسع الذي حقّقه ليعكس نوعاً من المرونة في السلوك ويوجّه رسالة إيجابية الى العهد والرئيس ميشال عون، بل إنه استعان بحسّه السياسي الفكاهي ليستخرج معنىً إيجابياً من «البرغوت»، بعدما كان قد شبّه حركة الوزير جبران باسيل به.