استذكرت بيروت مشهدية 7 أيار 2008. عشر سنوات مرّت على استباحة العاصمة اللبنانية. وفي الذكرى العاشرة، تكرّست الاستباحة العسكرية، في السياسة. ما شهدته شوارع بيروت ليل الاثنين 7 أيار 2018 يشبه إلى حدّ بعيد ما شهدته في 7 أيار 2008 وما تلاها. انتهت أحداث أيار في اتفاق الدوحة بتنازلات سياسية قدّمها فريق 14 آذار، وكانت شرارة انتهاء هذه القوى. وما حصل بالأمس، يمهّد إلى الدخول في مرحلة جديدة من التنازلات الواجب تقديمها ممن تبقى من هذا الفريق، لمصلحة فريق 8 آذار، الذي يراكم الانتصارات تلو الانتصارات، وآخرها في نتائج الانتخابات النيابية.
حصلت قوى 8 آذار على أكثرية المجلس إذا ما استمر التحالف مع التيار الوطني الحر. لكن رئيس الحكومة سعد الحريري اعتبر أنه مستمّر بالتحالف مع التيار. وفي المحصلة، فإن دفة القرار السياسي الرسمي في لبنان أصبحت تميل لمصلحة حزب الله. وإذا ما كان 7 أيار 2008، قد كرّس الثلث المعطّل الذي أطاح الحريري، فإن 7 أيار 2018 كرّس الثلث المعطل في المجلس النيابي. وهذا الثلث قادر على عرقلة تكليف الحريري لتشكيل الحكومة.
الرسالة من مشهدية بيروت، والتي توسعت في اتجاه البقاع، واضحة. المقصود فيها طرفان، الحريري والعهد برمّته وليس الوزير جبران باسيل أو التيار الوطني الحر فحسب. هي رسالات واشارات تحذيرية بشأن العودة إلى منطق الثنائية. وهي صعقات كهربائية لمن كانت تراوده الأحلام بامكانية بناء تحالف قادر على تخطّي الثنائية الشيعية. الاشكالات ومظاهر "الاجتياح" عبر الدراجات النارية للأحياء البيروتية هي الترجمة العملية للنتائج السياسية المتحققة من خلال الانتخابات في دائرة بيروت الثانية. وبمقدار ما هدفت هذه التحركات إلى التعبير عن الفرح بنشوة الانتصار، فإنها تنطوي على شعور انتقامي من المدينة وما تمثّله في وجدان الناس، هي لحظة الانتقام من 14 آذار 2005، أو بالأحرى من تداعيات 14 شباط 2005. التوجه إلى تمثال الرئيس رفيق الحريري أمام السراي الحكومي ليل الأحد، ورفع أعلام حزب الله فوقه، ثم التوجه إلى منطقة السان جورج حيث اغتيل الحريري ورفع رايات حزب الله فوق النصب، هي لحظة الانتقام وردّ الاعتبار، وهي لحظة للتأكيد أن بيروت عادت إلى حضن حزب الله، أو إلى وصاية الحزب مثلما كانت قبل 2005 خاضعة للوصاية السورية. هذه الوصاية عادت عبر عودة رموز منها إلى البرلمان، وبأصوات هائلة ومرتفعة.
هي النتائج السياسية المكرّسة حديثاً بعدما كرّست عسكرياً وفي الميدان قبل عشر سنوات. وفيما يعتبر البعض أن هذه التحركات ترتدّ سلباً على حزب الله وحركة أمل وتشيح الأنظار عن الانتصار الذي حققاه في لبنان عموماً، وبيروت الثانية خصوصاً، إلا أن الغاية الأبعد من ذلك كانت متعمّدة إلى حدّ ما. لأن لبنان ما بعد الانتخابات قد دخل في حقبة العمل السياسي بلا قفازات وبلا مجاملات. وكأن هناك من أراد توجيه رسائل قاسية بالضرب تحت الزنّار، لرسم أفق المرحلة المقبلة. هذا سينعكس على تشكيل الحكومة وخريطة طريقها. قد يكون من البديهي التفكير بأن أول الشروط التي ستوضع أمام الحريري لتكليفه تشكيل الحكومة، ليس تقديم تنازلات في الداخل فحسب، بل ربما العودة إلى التنسيق مع النظام السوري من بوابة ملف النازحين. وتكون تلك فاتحة استعادة النظام عافيته في لبنان، أو استعادته له كمحافظة خسرها باكراً قبل خسارته محافظات سورية أخرى انتزعتها منه الثورة. ما حصل في بيروت، سيكون له تداعيات وإنعكاسات على المرحلة السياسية المقبلة. وهذه ستظهر تباعاً بمعزل عن مكابرة كثيرين.