الفساد آفة وُجدت مع وجود الإنسان بحكم أن تجّمع الإنسان ضمن مجموعات ومبدأ «المصلحة الذاتية العقلانية» يفرض نظاما إجتماعيا سلطويا شموليا في أغلب الأحيان مدعومًا ببعد ديني، يعمل على نشر مناصريه في كافة مراكز القرار بهدف خدّمة النظام ومصالحه. ويلحظ التاريخ أن اللبنانيين تجمّعوا منذ البدء في تجمّعات دينية حاربت على كل الأصعدة (عسكريًا، فكريًا...) للبقاء على قيد الحياة. ونتج هذه التجمعات نظام بالشكل ديمقراطي، لكن بالواقع هو نظام طائفي، مذهبي، حزبي، مناطقي... وبالتالي، أصبح هناك سُلّم أولويات يختلف بحسب المجموعات، لكن العنصر المُشترك بينها يبقى بدون أدنى شك الوصول إلى السلطة.
هذا الأمر يخلق عوارض جانبية تُعتبر أساس الفساد منها تضارب المصالح (العامّة والخاصة) وصول أشخاص غير مؤهّلين إلى مناصب القرار (نظرية بيتر 1970)... هذه الظواهر تُخالف مبدأ الإنتماء الصادق الذي نادى به بلاتون والذي يعتبر أن الإنتماء إلى مجموعة عادة هو إنتماء صادق نابع من عاطفة وإدراك. هذه المخالفة لنظرية أفلاطون تأتي من مبدأ أن الشخص يكتشف الكمّ الهائل من المصالح التي قد يستفيد منها شخصيًا جرّاء إنتمائه لمجموعة معيّنة، وبالتالي يبدأ الفساد بالتفشّي مُظهرًا الجانب السيء للتوزيع البشري.
هناك كمٌ هائل من التعريفات للفساد نذكر منها : «الفساد هو ظاهرة تُعبّر عن إستخدام شخص لمنصب (سلطة) مُعطاة له بالوكالة لأغراض تتعلق بإثرائه الشخصي أو خدمة للمجموعة التي ينتمي اليها». لكن بدون أي تردّد يُمكن القول أن أجمل تعريف للفساد هو تعريف روبرت كليتغارت الذي قال أن الفساد هو إحتكار + سلطة – شفافية. ونقترح إضافة عدم أهلية الشخص على معادلة كليتغارت لتُصبح هذه المُعادلة: الفساد = إحتكار + سلطة + عدم أهلية صاحب القرار – الشفافية.
الآليات التي أُعتمدت لمحاربة الفساد تحوي عدّة أبعاد : قانوني، تشغيلي، وثقافي. ويفرض البعد القانوني سنّ القوانين التي تسمح بضمان وجود إدارة رشيدة كما وشفافية عالية في التعاطي بالشأن العام. أمّا البعد التشغيلي فيتمثّل بوجود آليات تسمح بتفادي الإستفراد بالقرار وملاحقة الفساد. ويبقى البعد الأخلاقي العنصر الأساسي الذي على أساسه يتمّ القضاء على الفساد.
أضرار الفساد لا تُعدّ ولا تُحصى وعلى رأسها خسارة الخزينة العامّة لكمّ هائل من الأموال قدّرناه في دراساتنا بعشرة مليارات دولار أميركي (الجمهورية تاريخ 3 كانون الثاني 2015). وهذه الخسارة تؤدّي إلى تراكم الدين العام ومعه خدمة الدين العام. لكن الضرر ليس ماليًا فقط، فالضرر الإقتصادي أعظم ويتمثّل بخلق مشاريع «الفيل الأبيض» إلى الحرمان الإقتصادي مرورًا بغياب الخطط الإنمائية وهروب رؤوس الأموال الإستثمارية.
وإذا عجزت السلطة السياسية في لبنان عن محاربة الفساد تحت شعار «المحافظة على السلم الأهلي» من ناحية أن المسّ بفاسد في منصب في الدوّلة يعني بالمعادلة اللبنانية المسّ بطائفته! وبالتالي، غابت محاربة الفساد مع العلم أن الأسماء معروفة ومتداولة في الصحافة بشكل مفضوح. وزاد الطين بلّة فقدان الجسم القضائي لإستقلاليته مما جعل محاسبة الفاسدين من شبه المُستحيلات.
في ظلّ هذا الإطار الأسود تظهر إلى العلن تجربة هيئة التحقيق الخاصة في محاربة الفساد والتي تُعتبر أساسية في أية إستراتيجية مُستقبلية لمحاربة الفساد في لبنان. وتتمثّل هذه التجربة الناجحة في ملاحقة هيئة التحقيق الخاصة برئاسة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة للعديد من الفاسدين ووقف حساباتهم المصرفية (الجدير ذكره أن هذه الهيئة خُلقت من خلال القانون 3182001 وهي لا تتبع مصرف لبنان ولا تشملها السريّة المصرفية). وبحسب تصريح لحاكم مصرف لبنان في المُلتقى العربي لهيئات مكافحة الفساد ووحدات الإخبار المالي الذي إلتأم في بيروت في الثالث من هذا الشهر، فقد سمح القانون رقم 332008 بالإجازة للحكومة اللبنانية إبرام إتفاقية مكافحة الفساد UNCAC وأعطى القانون 322008 هيئة التحقيق الخاصة حصريًا صلاحية تجميد ورفع السرية المصرفية عن الحسابات المصرفية وذلك تطبيقًا للإتفاقيات والقوانين المُتعلّقة بمكافحة الفساد. وأدخل تعديل القانون 3182001 الذي تمّ في العام 2015 الفساد والتهرّب الضريبي بين الجرائم الأصلية لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
من هذا المُنطلق، إستطاعت هيئة التحقيق الخاصة بين العامين 2010 و2017 من العمل على 63 طلب مساعدة من وحدات إخبار مالية وهيئات مكافحة فساد وغيرها من دول أخرى كما و23 قضية فساد من الجهات المحلّية المُلزمة بالإبلاغ حيث تمّ أخذ الإجراءات المناسبة من قبل هيئة التحقيق الخاصة والتي لم يفصح عنها حاكم مصرف لبنان لأسباب تتعلّق بسرية التحقيق. وكنتيجة لهذا العمل تسلّمت هيئة التحقيق الخاصة جائزة «Award of Excellence» من «Stolen Asset Recovery Initiative - StAR» من قبل البنك الدولي تقديراً لجهودها.
ويبقى السؤال عن مدّى صدق وإلتزام القوى السياسية التي أعلنت كلها مواقف مناهضة لتفشي الفساد في الدولة وذلك في جلسة مجلس النواب لإقرار موازنة العام 2018. فهل سنشهد إجراءات عملية في هذا الإتجاه بعد إنتخاب المجلس النيابي الجديد وتشكيل الحكومة؟ وهل ستقوم السلطة السياسية بوضع خطّة تكون هيئة التحقيق الخاصة عمادها؟ الجواب سيظهر في الأسابيع والأشهر المقبلة.
في الختام، لا يسعنا القول أن لبنان لن ينهض لا إقتصاديًا ولا ماليًا ولا إجتماعيًا إلا إذا تمّت محاربة الفساد، وحتى مشاريع مؤتمر سيدر 1 ستذهب سدًا إن لم يتمّ العمل جدّيًا على محاربة الفساد. وعلى هذا الصعيد ندعو الحكومة اللبنانية العتيدة المقبلة إلى التعاون بشكل مباشر مع هيئة التحقيق الخاصة للإفادة من تجربتها.