العراق كله كان ينتظر رسالة المرجع الديني علي السيستاني في شأن الاستحقاق الانتخابي في الثاني عشر من الشهر الجاري. السيستاني ليس الولي الفقيه، وعلى رغم ذلك كان انتظار رسالته مفصلاً انتخابياً رئيساً بالنسبة لكل الجماعات العراقية. الشيعة انتظروها بوصفها مؤشراً سيقترعون وفقه، والسنة انتظروها عساها تحمل ما يُخفف عنهم عناء الهزائم، والأكراد انتظروها بوصفها شرحاً لحال الشريك الأكبر في بلدهم.
السيستاني ولي فقيه على رغم انتفاء الصفة. هو الرجل الأقوى في العراق. رسالته في شأن الانتخابات لم تحمل جديداً، وعلى رغم ذلك، شكلت الحدث الأبرز في الأسبوع الذي يسبق الانتخابات. هاجم السيستاني الفساد والفاسدين ودعا العراقيين إلى عدم انتخاب من اختبروا فسادهم. خصوم نوري المالكي اعتبروا هذا الكلام موجهاً ضده، وهو اعتبر نفسه غير معني به، ورحب بالرسالة. رئيس الحكومة حيدر العبادي رحب بها أيضاً على رغم حيادها تجاهه.
كان انتظار الرسالة مؤشراً يفوق الرسالة أهمية، ذاك أن الانتظار كشف عن أن للمرجعية القول الأخير في المحطات الرئيسة. وهذا افتراض إذا ما صح فهو يعني أن ولاية فقيه عراقية تلوح في أفق ذلك البلد. وعلينا هنا أن نستعيد حقيقة أن قرار إنشاء الحشد الشعبي في أعقاب تدفق «داعش» على المدن العراقية اتخذته المرجعية أيضاً عبر قرار «الجهاد الكفائي» الذي أصدره السيستاني أيضاً، والحشد اليوم هو المؤسسة شبه الرسمية والممولة من الحكومة، والتي ينضوي في صفوف فصائلها مئات آلاف من المقاتلين، وترشح عشرات من وجوهها إلى الانتخابات، وهم اليوم ينافسون السياسيين العراقيين في مختلف الدوائر الانتخابية، وهم ممولون من الحكومة، والمرجعية لم تعلن قراراً بحل الحشد على رغم انتهاء المهمة.
السيستاني ولي فقيه عراقي. ثمة فروق بين الولايتين الإيرانية والعراقية، لكن أوجه الشبه كثيرة أيضاً. موقع المرجعين (الوليين) من المحطات السياسية الكبرى شديد التشابه. وحين نراجع مثلاً رسائل علي الخامنئي في المحطات الانتخابية الإيرانية فسنجد شبهاً كبيراً. الحياد والحديث العام عن الفساد وتجنب الإفصاح عن الجهة التي يرغب المرجع في دعمها. ثم أن الحرس الثوري بصفته أداة الولي الفقيه يمكن أيضاً أن يذكرنا بالحشد بصفته ثمرة فتوى المرجعية العراقية. ولاية الفقيه الإيرانية هي الدولة بظاهرها وباطنها، ويجري الفرز على هذا الأساس. ثمة معارضون للحكومة هناك من داخل عباءة الدولة والولاية، ومعارضون من خارجها. المرجعية في العراق هي السلطة في باطنها. هي الدولة العميقة. حين تُغالي الجماعات الشيعية في حروبها على الجماعات الأخرى، تنتظر الجماعات المغلوبة نجدة المرجعية، والأخيرة أحياناً تفعل وأحياناً لا تفعل. وحين يشعر سياسي شيعي بالضيق يتوجه من فوره إلى النجف، وينتظر خطبة الجمعة التي تلي زيارته، عساها تحمل بعض ما يسعفه في التقاط أنفاسه. والسيستاني، إذ لا يظهر بنفسه في خطبه المنتظرة، يبدو أقرب إلى «ظل للإمام» منه إلى مرجع.
أطلق معلقون وسياسيون عراقيون على رسالة السيستاني الأخيرة عبارة «الولاية المدنية»، في إشارة إلى رغبة عراقية بالتمايز عن «ولاية الفقيه» الإيرانية. والرغبة العراقية بالابتعاد عن العبارة الإيرانية هي جزء من مزاج عراقي قديم ينحو إلى تظهير الفارق بين نوعي التشيع العراقي والإيراني. لكن هذه الرغبة لا تكفي لإلغاء خطوات تقارب كبرى بين الجماعتين، بحيث صارت الفوارق شكلية. فالفارق التاريخي بين «المرجع» و «الولي» يضعف يوماً بعد يوم، والمرجعية في العراق لا تملك قرار الابتعاد عن إدارة شؤون الرعية طالما أن الأخيرة لا ترغب بابتعادها. المرجعية بهذا المعنى مرغمة على أن تكون «ولاية» طالما أنها الولاية الفعلية، وطالما أن السياسيين وأحزابهم وخصومهم سيلجأون إليها كلما حانت ساعة الضيق.