بين جيلين متناقضين، تدور أحداث الرواية، الرَجل العجوز المسيحي يوسف الذي يعيش على نكهة الماضي في فنجان قدره، فيوثّق ذاكرة أحداثِه من غير تبرّمٍ بشكلٍ تصاعديّ، بوجوهٍ مضَت في تاريخ حياته وتصبَّبت كرذاذِ المطر الخجول على ما تبقّى من عمره ووحدته. فقد خسرَ أخته حنّه التي كانت تعيش معه وتعتني به، وفقدَ بعضاً من أشقّائه.
ومَن تبقّى منهم هاجَر من العراق الذي استحالَ أتوناً رهيباً يَشحن الأحقاد والضغائن، ولكنّه لم يفقد الأمل ولم يتّجه بتفكيره للرحيل عنه كما فعلَ الكثير ممّن حوله.
فها هو يتذكّر بحنين مخنوق، صديقَه اليهودي «المقرّب منه» الذي رحلَ إلى إسرائيل بعد أن ضيّقوا عليه الخناق أيام النكسة الفلسطينية، وكخطفِ البرق تظهر وجوه وتختفي أخرى في يومياته وتتكدّس في صورٍ منسيّة في أرجاء منزله. نلاحظ هنا أنّ الكاتب يلقي غلالة الوداعةِ والاستسحسان لصديقه اليهودي الذي باعتباره لم يكن متعصّباً ولا متكلّفاً حتى في رحيله إلى دولة لا حقّ له فيها!
تكفير وتضليل
يستضيف يوسف برحابة صدر ابنة صديقٍ له تدعى مهى مع زوجها، وهي امرأة جامعية شابّة عانت من التعصّب الطائفي كونها مسيحية، وشهدَت الانفجارات والألغام التي نُصِبت لطائفتها من قبَل التفكيريين، ففقَدت خالها في طفولتِها، وأجهضت جنينها قبل أن يولد، ونَمت في ذهنها فرضيةٌ شاملة بأنّ الإسلام دينٌ يَمقت الدين المسيحي.
للكاتب حقٌّ بأن يُظهر رأيَها دون تزييف، ولكنّه في تسليمه في نهاية الرواية لأفكارها، لم يفرّق بين إرهابي ورَجل مسلِم مسالم، وهذا خطأ شنيع فادح وقعَ فيه ولم تأخذه عين البوكر بالاعتبار، بل كرّسَت من روايته فوزاً ساحقاً فرشّح للقائمة القصيرة المحتملة لجائزتها بسلاسة ودون أيّ تساؤل أو تعقيد.
المحكيّة
اللكنة العراقية تسيطر على الرواية برُمّتها دون أن تفسّر للقرّاء بعض الكلمات التي قد يَجهلونها لأنّ اللهجة العامية فيها قد تخلق التباساً في الفهم، والنهاية تكون في كنيسة سيّدة النجاة التي حصَلت فيها المذبحة العراقية الشهيرة، حين يستشهد يوسف وتكون مهى من الناجين لتروي تفاصيل المأساة وتداعياتها.
في نهاية البنية السردية هنا، يُبرز الكاتب رأيَ مهى بأنّه الصائب وأنّ الإسلام دينٌ إرهابيٌ محض، مستشهداً بالجملِ التي تنطق بها مهى في نهاية الرواية، وهو هنا يُبرز رأيَه علانيةً دون أن يُبطّنه بالتعليل المرجّح أو التوضيح المفسّر.
سرد عشوائي
حمرةُ تعصّبٍ عليلة تطفو على سطح الرواية تُبرّر وجهة نظرٍ غيرِ منطقية، لأنّ التكفيريين لم يَرحموا أحداً بغَضّ النظر عن الديانة التي ينتمي إليها، فهم يَستهدفون الجميع باسمِ ما يسمّونه الحق، ويُكفّرون الجماد وليس الإنسان فقط.
فالكاتب هنا ينهال بسوطٍ من عروق الصخر على ذهن القارئ بتجميد رأيه الذاتي، بأنّ الإسلام يكفّر الدين المسيحي، فقد أظهَر وجهة نظرِ المسِنّ المسيحي يوسف الذي يرفض أن يقرّ بما ينسبه البعض للدين الإسلامي بأنه دين متعصّب ولكنّه يُظهر في النهاية بأنّ مهى الشابة التي عاصَرت زمن الحداثة قد وفِّقت في رأيها المعاكس له حين مات من يؤمِن باللاتعصّب وعاش من ينحاز له.
فهل تعمَّد الكاتب السردَ العشوائي ليُبرز اللاتناسُبَ بين جيلين، أم فرَض رأيَه الذاتي دون حسيب أو رقيب، بالعكس، فقد كوفئ عليه بترشيحٍ لجائزة مهمّة لم تنظر إليه بعين الناقد أو أنّها عبرت النقد، لتتناولَ الأحداث المتقاطعة وتُبرّرَ ما رشّحته من التقدير لسيرورة الحدث؟ ولعلّها تراجَعت عن منحِه الجائزة لأنّها تدرك بأنّ روايته ستثير الكثير من الجدل وعلامات التساؤل لانحيازها المفرط.
قالت الكاتبة هيلين كيلر: «إجعَل وجهك نحو الشمس دائماً ولن ترى الظلال»، الكاتب لم يرنُ للشمس وهي تشرب النور من السماء، لتجلوَ حقيقة أنّ التعصّب من قبَل الأديان جميعاً تطرّفٌ واحتقان لا طائل منه، ولكنّه رجَّح فرَضية الكرهِ واتّخَذ من مهى درعاً ليُبرز رأيَه في كرهِ المسلمين كافّة لدينه، وليُغرقَ ذهنَه في انكسار وهمي، ولم يكن المطلوب منه إسدالُ الستار على المستور، بل تصويبُ القلم نحو الحقيقة بأنّ فلسفة الإرهاب ليست «إسلامية» إنّما شيطانية بحتة.
(نسرين بلوط)