اتسمت خطبة المرجع الديني الأعلى علي السيستاني بالغموض، بالشكل الذي جعل مختلف التكتلات الحزبية تعتبر نفسها غير معنية بما جاء في الخطبة من دعوة إلى عدم انتخاب السياسيين “الفاسدين والفاشلين”، فيما بدت إشارة السيستاني واضحة إلى عدم دعم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، ما يحبط مساعيه لولاية ثالثة في رئاسة الحكومة العراقية.
وبدا واضحا أن السيستاني خيب آمال رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي حين ترك الأمور غامضة بالنسبة إلى بقية المرشحين ما يساوي بينه وبين مرشح الحشد الشعبي وإيران هادي العامري، في وقت بدأ فيه العبادي بالتمايز عن الحشد قبل أسبوع من الانتخابات واتهام قيادات منه بالتورط في الحصول على رواتب وهمية والوقوف وراء اغتيال مسؤول المالية في الحشد قاسم الزبيدي.
وقال السيستاني في الخطبة التي ألقاها أحد ممثليه وهو الشيخ عبدالمهدي الكربلائي وبثها التلفزيون، “إن المرجعية الدينية العليا تؤكد وقوفها على مسافة واحدة من جميع المرشحين ومن كافة القوائم الانتخابية”.
لكن الإشارة إلى المالكي كانت واضحة عندما تحدث عن انهيار قوات الأمن في مواجهة متشددي تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2014 وكان المالكي في السلطة آنذاك.
مقتدى الصدر: إيّاكم والإغراءات من قبل الفاسدين أو التهديدات
وقال السيستاني “من المؤكد أن الإخفاقات التي رافقت التجارب الانتخابية الماضية من سوء استغلال السلطة من قبل الكثير ممن انتخبوا.. في المناصب العليا في الحكومة، ومساهمتهم في نشر الفساد وتضييع المال العام بصورة غير مسبوقة.. لم تكن إلا نتيجة طبيعية لعدم تطبيق العديد من الشروط اللازمة”.
ومثلما كان متوقعا، أعلنت القوائم الشيعية المتنافسة في انتخابات الثاني عشر من مايو الحالي، تأييدها لخطاب المرجعية، بالرغم من أنه لم يخل من نقد غير مباشر لها جميعا.
وحبس الشارع السياسي الشيعي أنفاسه، بانتظار أن يعلن السيستاني موقفه من الانتخابات، وما إذا كان سيتبنى دعم أو معارضة أي من القوائم المرشحة، لكن بيانه جاء عاما ليفتح الباب على تأويلات مختلفة.
وأعلن ممثل السيستاني أن المرجعية “تقف على مسافة واحدة من جميع المرشحين والكتل السياسية”، مؤكدا أنها “لا تزال ملتزمة بمسار دعم الخيار الديمقراطي في البلاد”.
وبالنسبة لمراقبين، فإن حديث المرجعية عن المتورطين بتبديد المال العام، هو “إشارة صريحة إلى نوري المالكي، زعيم ائتلاف دولة القانون”، فيما يمثل الحديث عن استغلال عناوين معينة لتحقيق مكاسب انتخابية، “إشارة إلى استغلال قائمة الفتح القريبة من إيران لاسم الحشد الشعبي في الدعاية الانتخابية”.
ولأول مرة، منذ تصويت العام 2005 على الدستور العراقي الدائم، تعدّل مرجعية النجف توصيفها للمشاركة في الانتخابات، من كونها “واجبا شرعيا”، إلى كونها “حقا شخصيا”.
وفور تلاوة بيان السيستاني، سارعت ثلاث كتل شيعية من أصل خمس إلى تأييده. وأعلن ائتلاف النصر بزعامة رئيس الوزراء الحالي، “تأييده المطلق لخطاب المرجعية” مثلما جاء على لسان المتحدث باسم الائتلاف حسين العادلي.
وأعلن تحالف الفتح بزعامة هادي العامري، “الطاعة التامة” للسيستاني، وفق ما أكد ذلك المتحدث باسم التحالف، أحمد الأسدي.
وقال صلاح العرباوي، القيادي في تيار الحكمة، بزعامة عمار الحكيم، إن بيان السيستاني يعني “التمسك بالنظام الحالي من حيث المبدأ”، و”تصحيح المسار الانتخابي”.
واعتبر الكاتب السياسي العراقي فاروق يوسف أن السيستاني خيب آمال مقلديه من العامة الذين انتظروا أن يخرجهم المرجع الديني الأعلى من حيرتهم وينصرهم على الفاسدين، بتوضيحاته الغامضة لفتواه المُجرّب لا يُجرّب.
وقال يوسف في تصريح لـ”العرب”، “لقد رفعت تلك التوضيحات من معنويات زعماء الكتل الشيعية المتنافسة في الانتخابات حين استمر السيستاني في تمثيل دور الراعي للجميع وهو ما خلط الأوراق ثانية”.
وأضاف أنه إذا ما اعتبرت تلك التوضيحات توجيهات انتخابية وهو ما حدث، فإن ذلك يعني أن العراق قد تحول إلى دولة دينية، من غير حاجة إلى الإعلان عن ذلك، وما تعبير “الطاعة” الذي ورد على لسان ممثل الحشد الشعبي إلا محاولة لتكريس مفهوم ولاية الفقيه بطريقة مخاتلة.
فاروق يوسف: المرجعية كسبت ود المتنافسين الذين يفترض أن فتوى السيستاني تحرم انتخابهم
وأكد أنه بهذا تكون المرجعية قد ربحت شوطا على حساب جمهورها العام حين كسبت ود المتنافسين وجلهم من المجربين الذين يُفترض أن فتوى السيستاني قد شملتهم بحرمة انتخابهم.
ويرى مراقبون في بغداد أن بيان المرجعية “ربما جاء مخيبا للعبادي، الذي كان يأمل في إشارة إلى منهجه العقلاني المعتدل، أو على الأقل إشارة سلبية إلى خصومه في الفتح ودولة القانون، الموسومين بالتشدد”.
لكن آمال العبادي لم تكن واقعية، وفقا للمراقبين، على اعتبار صعوبة دخول المرجعية في تفاصيل تأييد أو عداء قائمة أو مرشح، بسبب حساسية وضعها داخل الفضاء الشيعي، والعلاقة الملتبسة بإيران.
ويقول مراقبون إن توجيه نقد لقوائم مقربة من إيران قبيل موعد الانتخابات، من شأنه أن يؤزّم العلاقة بين مرجعيتي النجف وقم، ويحرك الكثير من الحساسيات الكامنة بين التشيع العروبي والتشيع الفارسي، وهو ما لا يودّ السيستاني أن يكون سببا فيه.
وفي خطوة لافتة، شن العبادي هجوما حادا على قادة في الحشد الشعبي، متوعدا بملاحقتهم بسبب استحواذهم على رواتب لعناصر وهميين في الحشد، متهما إياهم باغتيال مدير المالية في الحشد قاسم الزبيدي، ما اعتبره مراقبون نأيا بالنفس عن الميليشيا المرتبطة بإيران أياما قبل موعد الانتخابات.
وقال العبادي إن “مدير مالية الحشد، الذي اغتيل قبل أيام اتصل بي قبل حادث الاغتيال ليزودني بمعلومات تشير إلى وجود مقاتلين وهميين بين صفوف الفصائل، وأخبرني بوجود فساد في توزيع الأموال واستيلاء بعض القيادات عليها”.
وقتل الزبيدي، الاثنين، إثر تعرضه لهجوم مسلح داخل منزله من قبل مجهولين.
وتعّهد العبادي أمام الحاضرين بملاحقة من يقف وراء الهجوم، قائلا، “سأجعلهم يدفعون الثمن، جروحنا لم تلتئم، وهم يصرون على أن يصيبونا بجروح أخرى، ويتصورون أنهم يخوفوننا بهذه الأعمال الدنيئة”.
وحث مقتدى الصدر الآلاف من أنصاره الذين احتشدوا في ساحة التحرير ببغداد على منع أي تزوير، قائلا “إذا وجدتم تزويرا عبر تدخل الميليشيات أو الأحزاب السياسية فبادروا إلى إبلاغ الجهات المعنية على الفور وفق الطرق القانونية”.
وفي كلمته التي تلاها نيابة عنه مدير مكتبه ببغداد إبراهيم الجابري، قال لأنصاره “إيّاكم والإغراءات من قبل الفاسدين أو التهديدات، ونحن نعلم ماذا سيفعلون”، دون المزيد من التوضيح.
ويبدو أن الصدر كان يشير إلى فصائل شيعية مقربة من إيران وعلى رأسها عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي، والتي لطالما وصفها بأنها “ميليشيات وقحة”.