عملت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بجدية تامة على إنتاج الاتفاق النووي مع إيران وفق تفاهمات ثنائية أميركية إيرانية غامضة. وتولّت قناة التواصل في مسقط بين واشنطن وطهران وضع الخطوط العريضة للاتفاق على قاعدة ما يرومه الطرفان في علاقاتهما المستقبلية. وعلى أساسا ما اتفق عليه خلف الكواليس الُعمانية تبنت مجموعة 5+1 الاتفاق، ومحضته بالرعاية والتوقيع في فيينا عام 2015.
لم تكن لدى إيران أوهام حول مستقبل برنامجها النووي. تعرف طهران أن المزاج الدولي لم يكن ليسمح لها بإنتاج قنبلتها النووية، لكنها أرادت إنتاج ما يمكن أن يتحول إلى صفقة كبرى مع الغرب ويرمي إلى هدفين.
الأول، أن يتبنى العالم أجمع قبول النظام السياسي في طهران، ويتوقف عن تهديده واعتباره نافرا عرضيا في حكم إيران. وثانيا، أن يقبل هذا العالم بإيران دولة ذات بعد نووي يحق لها وفق ذلك أن تملك نفوذا إقليميا واسعا بما يليق بكبار الدول. وإذا ما كان موقعو الاتفاق النووي لم يلحظوا مرامي إيران أو ادّعوا ذلك، فإن طهران تصرفت تبعا لتلك الأهداف، وعملت منذ إبرام الصفقة على الترويج لسطوتها على المنطقة وفق روحية اتفاق طُبخ في مسقط، ووقّعَ في فيينا.
يحق لإيران أن تصدق أحلامها داخل سطور الاتفاق مع الستة الكبار في العالم. أبرم أوباما الصفقة من وراء ظهر دول المنطقة وأسقطها على العالم بصفتها إنجازا لصالح السلم في الشرق الأوسط. وراح الرجل إثر ذلك يبشر بدور جديد لإيران بصفته جزءا من “عقيدة” أفرج عنها في مقابلته مع جيفري غودلبرغ في مجلة “أتلانتك مونثلي” غامزا من قناة دول الخليج خصوصا، داعيا السعودية إلى التفاهم والاتفاق على تقاسم النفوذ الإقليمي معها.
عرض أوباما عقيدته الشهيرة في مارس 2016. قبل ذلك بعام كانت أصوات تنطلق من طهران تعلن للعالم بأن إيران تحتل أربع عواصم عربية وأنها أصبحت إمبراطورية عاصمتها بغداد. وعلى هذا كانت طهران تلتقط من واشنطن، كما من العواصم الكبرى، ما يفهم منه أنه إقرار لإيران بما أرادته من الاتفاق النووي من اعتراف بها دولة فوق باقي دول المنطقة يجوز لها أن تمارس معها ما لا تمارسه الدول الصغرى.
غير أن حسابات واشنطن- أوباما، وإن كانت أوحت بهذا السراب، لم تكن لتتطابق مع أوهام إيران وطموحاتها. كان الرئيس الأميركي يريد تحقيق إنجاز شخصي مؤقت يجمد من خلاله البرنامج النووي ويحشره داخل معايير لا تتيح له الارتقاء نحو مستويات عسكرية. وإذا ما كانت للاتفاق مع إيران أبعاد اقتصادية مالية جيواستراتيجية تنشدها طهران، فإن مفتاح ذلك بقي في يد واشنطن وحدها على نحو أبقى الاتفاق داخل ما هو مطلوب منه، دون أن يستجيب لما تطالب به طهران.
سيسجل لوزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري إجادته لـ“بيع الهواء”. برعَ في ذلك أيضا في الحالة السورية، وعمل بحرفية على ترتيب ما تريده واشنطن في أي ملف خارجي بما يتناقض مع ما يريده الآخرون. وهو إذ يدافع اليوم عن الاتفاق النووي فهو يعلم جيدا أن إدارته فخخته بما أتاح للمرشح دونالد ترامب فتح النار على “أسوأ اتفاق” منذ الأيام الأولى لحملته الانتخابية. بمعنى آخر، فإن “أميركا العميقة” التي أنتجت الاتفاق هي نفسها التي انقلبت عليه موحية للرئيس المقبل في البيت الأبيض بنفاد صلاحيته. فحتى المرشحة الديمقراطية المنافسة هيلاري كلينتون قالت أثناء حملتها الانتخابية إنه لدى منتقدي الاتفاق “حجج تحترم” وإنها “لا تثق بالإيرانيين على الإطلاق”.
سقط الاتفاق النووي لأنه أبرم كي يسقط ويجري بعد أعوام تحديثه. سقط الاتفاق النووي حتى لو لم يقرر دونالد ترامب الانسحاب منه. دخل العالم برمته مرحلة ما بعد الاتفاق
بدا واضحا لإيران أن واشنطن لن ترفع الفيتو الذي تضعه لوقف القطيعة بين مصارف إيران والنظام المصرفي العالمي. بقيت محادثات وزير الخارجية، محمد جواد ظريف، مع نظيره الأميركي كيري، آنذاك، دون أي جواب شاف. لم تعط واشنطن الضوء الأخضر الذي يتيح للشركات الدولية الكبرى الاستثمار في إيران. حاولت طهران إغراء واشنطن عبر صفقة لشراء طائرات بوينغ تكون بديلا عن صفقة إيرباص الأوروبية المتعثرة، لكن موقف الإدارة الأميركية التي تمسك بمفاتيح النظام المصرفي العالمي بقي ممانعا لأي تطبيع يتعدى الجانب التقني للاتفاق النووي.
سقط الاتفاق النووي لأنه أبرم كي يسقط ويجري بعد أعوام تحديثه. سقط الاتفاق النووي حتى لو لم يقرر ترامب الانسحاب منه. دخل العالم برمته مرحلة ما بعد الاتفاق. حتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي توقع في واشنطن انسحاب ترامب من الاتفاق، بات يعتبر أنه سواء جرى أو لم يجر هذا الانسحاب فيجب البحث عن اتفاق جديد موسع يشمل الجوانب الملتبسة الأخرى: مصير البرنامج عام 2025. برنامج إيران للصواريخ الباليستية. نفوذ إيران “المهدد للاستقرار” في منطقة الشرق الأوسط.
وإذا ما كانت مروحة الاتصالات تشمل روسيا، فذلك لأن لها وللصين، كما بقية دول العالم، مصلحة في ضبط حراك إيران داخل ما هو متاح ومسموح به في النظام الدولي. فلا أحد يريد لإيران دورا يشاغب على مصالح الشرق كما الغرب في هذا العالم، في وقت قد تشهد القمة المقبلة بين رئيسيْ الولايات المتحدة وكوريا الشمالية تحوّلا لافتا في العلاقات الدولية يعوّل على الاهتداء إلى اتفاق جيد بين الجانبين مقارنة بـ”الاتفاق السيء” مع إيران.
وبينما تبدو جولة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الأخيرة في المنطقة تحضر لما بعد الاتفاق النووي مع إيران، وفيما ترتفع لهجة طهران محذّرة من مغبة سقوطه رافضة أي سعي لإعادة التفاوض بشأنه، يعيد العالم عقارب الساعة بعد 12 مايو، موعد الإعلان عن قرار ترامب، إلى فترة ما قبل هذه الصفقة.
ستعود إيران إلى الإيحاء بأن أجهزة التخصيب تعمل وفق معدلات مقلقة، وستعود الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى الاجتهاد وتنشيط فرق التحقيق للتأكد من سلمية البرنامج النووي، وسترفع طهران من خطبها المهددة دفاعا عما هو “حق سيادي” لها في امتلاك التقنية النووية، وستُفاقمُ العقوبات الاقتصادية من حمى الأزمة الاقتصادية والسياسية الداخلية.
تراقب طهران بقلق التحولات الدولية الكبرى. لا تقلق إيران من الكشف الاستعراضي الأخير لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لكنها تتأمل بقلق مزاجا دوليا إقليميا يتغير لغير مصلحتها. بات الغرب يدلي بدلو صريح في ما يتعلق بمستقبل التسوية في سوريا.
وفيما يتباين الموقف بين موسكو من جهة، وواشنطن وأوروبا من جهة ثانية، فإن إجماعا ضمنيا يسود بشأن ضرورة التصدي للحالة الإيرانية هناك. بدا العالم مُدينا بقوة للتدخل الإيراني في اليمن، فيما يمثل قرار المغرب قطع العلاقات مع إيران، لضلوعها في أنشطة داعمة لجبهة البوليساريو، جانبا جديدا لتنامي البيئة المعادية في المنطقة والرافضة للسلوك الإيراني وتدخل طهران في شؤون بلدانها. وفي ذلك إن خلفية دولية إقليمية تتشكل في هذه المرحلة بالذات لتسليط المجهر على “استثناء” جرى إهماله طويلا.