حين لقّبه أنصاره بـ”مختار العصر” في إشارة منهم إلى المختار بن أبي عبدالله الثقفي الذي طالب بدم الإمام الحسين وقتل عددا من قتلته وسعى إلى السلطة رافعا شعار “يا لثارات الحسين” كأن رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي قد سبقهم في إعلان الحرب على أتباع يزيد بن معاوية، وهو الخليفة الأموي الثاني، معتبرا نفسه المكلّف في هذا العصر بالاقتصاص من قتلة الحسين وهو ما عّبر عنه بطريقة حرفية حين اعتبر حربه الطائفية ضد المحافظات ذات الأغلبية السنية في مواجهة اعتراض مواطنيها وهم مواطنون عراقيون على سياساته في العزل والإقصاء والتهميش والاعتقال هي استمرار للحرب التي قُتل فيها الحسين. وهو ما دفعه إلى استحضار “يا لثارات الحسين” من جهة حمولته الطائفية الجاهزة.
مريض العزل الطائفي
أتباع “مختار العصر” كانوا من طينته الطائفية نفسها، فكان ذلك اللقب إشارة إلى الدور الذي لعبه الرجل في الحرب الأهلية التي شهدها العراق بين عامي 2006 و2007 وكان يومها في عهده الأول رئيسا للوزراء. لقد قُتل يومها الكثير من أبناء الشعب على الهوية الطائفية وكان ذلك إيذانا ببدء عمليات التهجير والنزوح وإقامة مناطق العزل الطائفي في بغداد.
يومها سيّجت مناطق ذات أغلبية سنية في بغداد بجدران كونكريتية هي أشبه بالجدار الذي شيّدته إسرائيل ليفصل بينها وبين المدن التابعة للسلطة الفلسطينية.
المجتمع العراقي والدولة العراقية لم يعرفا الفساد عبر تحولاتهما وما شهدته الدولة من انقلابات تميزت في غالبيتها بالعنف، غير أن العراقيين، حكاما ومحكومين لم يكونوا لصوصا. كانت أياديهم بيضاء دائما. لم تكن شبهة السرقة متداولة في الخصومة بين متداولي السلطة بطريقة غير شرعية
صحيح أن جرائم الحرب الأهلية في معظمها قد سُجلت وثائقيا باسم جيش المهدي الذي أشرف عليه وقتها مقتدى الصدر غير أن تلك الجرائم ما كان لها أن تقع لولا أنها كانت تمثّل النهج الذي يريد له رئيس الحكومة يومها أن يسود في تنظيم العلاقة بين العراقيين وهي علاقة تقوم على القتل، وإن لم يكن القتل ممكنا فإن البديل سيكون جاهزا، حيث العبث الصبياني بكرامة الأهالي ومصادرة حرياتهم وسواهما من ممارسات القهر والإذلال والاحتقار التي مارستها المفارز العسكرية والأمنية في الموصل وهو ما قاد في وقت لاحق، أي في نهاية ولاية المالكي الثانية إلى تسليم المدينة راضية مرضية إلى التنظيم الإرهابي “داعش” بعد أن أمر القائد العام للقوات المسلحة وهو المالكي نفسه قطعات الجيش العراقي بترك أسلحتها في أمكنتها والفرار من أرض معركة لم تقع.
لقد بدأ المالكي ولايته الأولى بمجازر الحرب الأهلية وانتهت ولايته الثانية بكارثة ضياع ثلث الأراضي العراقية في مسرحية رثّة غلبت عليها نزعة الانتقام الطائفي التي أنست المالكي صفته حاكما مؤتمنا على حدود العراق وسيادته.
المالكي الذي تم تأهيله في سياق تسوية أميركية ــ إيرانية من خلال إزاحة إبراهيم الأشيقر (الجعفري) من زعامة حزب الدعوة الإسلامي كان مستعدا لتمزيق الخارطة الاجتماعية العراقية بمبضع جراح وقسوة جزار وصلافة محتال وبرودة قاتل.
لم يكن الوصول إلى السلطة بالنسبة إليه هدفا في حد ذاته، فكل الاستبداد الذي مارسه كان من أجل أن ينتقل بالمجتمع العراقي من ضفة النزاهة إلى ضفة الفساد وكان له ما أراد. على الأقل حتى وقتنا الحالي.
معجزة المالكي
الإتيان به يعتبر نتاجا لتسوية أميركية ـ إيرانية أزاحت إبراهيم الأشيقر "الجعفري" من زعامة حزب الدعوة الإسلامي، ليقدم المالكي نفسه على استعداد لتمزيق الخارطة الاجتماعية العراقية بصلافة محتال وبرودة قاتل
كان مختار العصر ضروريا لأتباعه وأنصاره لأنه فتح لهم خزائن العراق الغاصّة بالأموال ووضع ثروة الشعب بين أيديهم الفقيرة التي تفننت في اختراع سبل وأساليب للفساد لم يكن في إمكان الخيال البشري مهما بلغ به التهتك والفجور أن يصل إليها.
بالنسبة لمَن عرف المجتمع العراقي في أزمنة رخائه لا بد أن يكون ذلك الأمر صادما. فالدولة العراقية لم تعرف الفساد عبر تحولاتها وما شهدته من انقلابات تميزت في غالبيتها بالعنف، غير أن العراقيين، حكاما ومحكومين لم يكونوا لصوصا.
كانت أياديهم بيضاء دائما. لم تكن شبهة السرقة متداولة في الخصومة بين متداولي السلطة بطريقة غير شرعية. وما شذوذ المالكي وأتباعه عن تلك القاعدة إلا واحدة من الظواهر التي استحدثها المحتلّ الأميركي وعرف كيف يوظفها في خدمة مشروعه لتدمير البنية الأخلاقية للمجتمع العراقي.
لقد بلغ الفساد في عهدي حكم المالكي ذروة غير مسبوقة على المستوى العالمي وهو ما دفع بالعراق إلى احتلال المرتبة الأولى في الدول الأكثر فسادا في العالم. وقد وصف مختصّون ذلك الفساد بأنه ظاهرة تاريخية لم تقع منذ أن وطأت قدما آدم الأرض. وهكذا صنع مختار العصر إذاً معجزته التي ستبقيه خالدا. يتذكره العراقيون في خرابهم. ولن يتذكروا دمارهم وخرابهم وانهيار قيمهم الأخلاقية وتشرّدهم وتمزّق نسيجهم الاجتماعي وفقرهم وانعدام أسباب العيش الكريم في بلادهم إلا مشفوعا بذكر المالكي.
القهر والإذلال والاحتقار مفاهيم تشكل فلسفة المالكي في الحكم، التي مارس مثلها في الموصل متسببا بتسليم المدينة إلى داعش بعد أن أمر القائد العام للقوات المسلحة، وهو المالكي نفسه، قطعات الجيش العراقي بترك أسلحتها في أمكنتها والفرار من أرض معركة لم تقع
الرجل الذي صنع من مستفيدين سابقين من نظام الرعاية الاجتماعية في دول اللجوء الأوروبي أباطرة مال ومالكي عقارات في مختلف أنحاء العالم.
ولأن المالكي ليس رجل سياسة بالمعنى المعاصر بل هو سياسي في إطار ما يسمح به الفكر الديني من تحرر من القواعد الواقعية. كانت للأنبياء معجزاتهم كما اخترع الشيعة لأئمتهم معجزات لذلك كان من الضروري أن يكون للمالكي معجزته التي لم يكن أحد يتوقع ظهورها في العراق. كان الفساد الإداري والمالي الذي لم يعرفه العراق من قبل هو معجزة المالكي.
قامت تلك المعجزة في جزء منها على مناقصات يهرب الرابحون بها بالأموال المخصّصة للبناء من غير أن يبنوا شيئا يذكر. أما الجزء الأكبر والثابت من تلك المعجزة فإنه يكمن في استنزاف ميزانية الدولة من خلال رواتب شهرية تذهب إلى حسابات موظفين وعسكريين ورجل شرطة فضائيين لا وجود لهم ومتقاعدين لم يخدموا في الدولة العراقية يوما واحدا بل إن البعض منهم لم يقم في العراق منذ أكثر من أربعين سنة وسجناء سابقين كانوا في حقيقتهم مجرد قطاع طرق ولصوص ولاجئين في دول العالم الحر لا يزالون ينعمون برعاية الضمان الاجتماعي في البلدان التي لجأوا إليها.
ولهذا فإن ما فعله المالكي في عهديه اللذين انتهيا بتسليم الموصل لعصابة داعش بعد هزيمة الجيش العراقي في معركة لم تقع سيمتد أثره السيء إلى المستقبل ولن يتمكّن أحد، مهما بلغت نزاهته أن يمحو ذلك الأثر.
نوح المعاصر المبشر بالجنة
العراق الجديد يبدو كسفينة للمالكي، أنقذ من خلالها أعضاء حزب الدعوة من الفقر والتسول والعوز والحاجة، وحملهم إلى حياة لم يكونوا يحلمون بثرائها. حياة تدفقت فيها أنهار الجنة كلها بكل ما تحمله من عسل وزعفران ومسك وكافور
العراق الجديد يبدو كسفينة للمالكي، أنقذ من خلالها أعضاء حزب الدعوة من الفقر والتسول والعوز والحاجة، وحملهم إلى حياة لم يكونوا يحلمون بثرائها. حياة تدفقت فيها أنهار الجنة كلها بكل ما تحمله من عسل وزعفران ومسك وكافور
يحق للمالكي اليوم أن يضع صورته على سفينة نوح مبحرا بها من جديد باعتباره منقذا. الرجل الذي كان قبل الاحتلال الأميركي يحلم في أن يكون مديرا لمدرسة ابتدائية في طويريج البلدة التي ولد فيها عام 1950 صار عليه اليوم أن يصدق أنه التجسيد المعاصر لـ”اوتنابشتم” المذكور في ملحمة جلجامش الذي ورد ذكره في التوراة والقرآن باعتباره النبي نوح.
المالكي هو نوح العراق الجديد. وليست هنا مبالغة على الإطلاق. فالعراق الجديد هو سفينته التي أنقذ من خلالها أعضاء حزب الدعوة من الفقر والتسول والعوز والحاجة وحملهم إلى حياة لم يكن يحلمون بثرائها. حياة تدفقت فيها أنهار الجنة كلها بكل ما تحمله من عسل وزعفران ومسك وكافور. أعضاء حزب الدعوة ومناصروه هم سادة الحياة اليوم في العراق.
يوما ما سيدافع المالكي عن فساده ويقول إن الأموال التي نُهبت في عصره إنما ذهبت إلى أتباع المذهب وهو في ذلك يقول نصف الحقيقة. لقد فرّط الرجل الذي لا يطمئن لأتباعه بجزء كبير من الـ”تريليون دولار” دفعه إلى إيران من أجل حماية وجوده.
من الصعب التفكير بطريقة شخصية غير سوية مثل شخصية المالكي. كان من اليسير عليه أن يوزع ثروة العراق على العراقيين ليبقى حاكما إلى الأبد. وهو ما كان ولا يزال يحلم به. غير أنه لم يفعل ذلك مدفوعا بنزعته الطائفية التي حرمته من رؤية العراق على حقيقته.
المالكي حسب الدعابة الانتخابية الحالية هو نوح العراق الجديد. وهو توصيف فيه قدر كبير من الحقيقة التي لا تتناقض مع الواقع. لقد حملت سفينته اللصوص وقطاع الطرق والأفّاقين والمهربين والمزوّرين والمتاجرين بالطقوس الدينية وسماسرة الصفقات المشبوهة بكل ما وصلت إليه أياديهم من أموال إلى ضفة الأمان فيما تُرك الشعب العراقي غارقا في فقره وجهله وضعفه واضطرابه وتلفته وتمزقه وطائفيته وحيرته وتخلفه وانسداد الآفاق أمامه وحاضره المعتم.
يحق للمالكي أن يزعم أنه فعل ما فعله نوح في أيامه الخوالي. لقد نجا بالمؤمنين به من الهلاك حاملا معهم ثروات العراق المنهوبة. فهل من طوفان جديد يخطط المالكي لقيامه من أجل أن يبتلع مَن تبقى من العراقيين ولم يصبه الهلاك وما تبقى من ثروات العراق تحت الأرض؟ من وجهة نظري فإن ظهور المالكي مُبحرا بسفينة نوح الجديدة هو نذير شؤم ينبغي على العراقيين أن ينظروا إليه بطريقة جادة وعليهم أن يحتاطوا لما سيجرّه عليهم ذلك التحوّل من ويلات وكوارث.
فاروق يوسف