في موسم الإنتخابات النيابية، الذي ينتهي بعد خمسة أيام، أصبحت طرقات لبنان من أقصى الجنوب حتى آخر قرية في الشمال، ومن الساحل حتى السهل مرورًا بالمناطق الجبلية غابة لصور المرشحين، من دون أن ننسى بالطبع كل تلك الشعارات التي ترسم صورة للوطن بعد السادس من أيار على غير حقيقته، حتى يخيّل للناظر إليها والمتمعّن بفحواها أنها مستوحاة من غير الواقع المزري الذي يعيشه المواطن، وكأنها عملية غش موصوفة، بإعتبار أن القاصي والداني يعرف تمام المعرفة أنها للإستهلاك الإنتخابي ليس إلاّ، وهي لن تعود صالحة بعد أن يقترع المقترعون، وبعد أن يفوز من مقدّر له الفوز ويسقط من لم يحالفه الحظ ولم تسعفه التحالفات المرّكبة على قياس "الكبار"، الذين لم يأخذوا في الإعتبار سوى الحاصل الإنتخابي وتركوا لكل شاطر بشطارته لتأمين الأصوات التفضيلية، مع ما رافق كل ذلك من إستغلال رخيص للوضع الإقتصادي وحاجة الناس إلى الخدمات والمساعدات.

فلو أراد أي مدّقق في الحسابات أن يطابق ما جاء في المادة 61 من قانون الإنتخابات، والتي تحدّد سقف الانفاق لكل مرشح أو لكل لائحة لتبيّن له أن ما ينفق على صور المرشحين يفوق السقف المحدّد لمجمل الحملة الإنتخابية، خصوصًا أن القانون حدّد سقف المبلغ الاقصى الذي يجوز لكل مرشح انفاقه اثناء فترة الحملة الانتخابية وفقا لما يأتي:

قسم ثابت مقطوع قدره مئة وخمسون مليون ليرة لبنانية، يضاف اليه قسم متحرك مرتبط بعدد الناخبين في الدائرة الانتخابية الكبرى التي ينتخب فيها وقدره خمسة الآف ليرة لبنانية عن كل ناخب من الناخبين المسجلين في قوائم الناخبين في الدائرة الانتخابية الكبرى.

أما سقف الانفاق الانتخابي للائحة فهو مبلغ ثابت مقطوع قدره مئة وخمسون مليون ليرة لبنانية عن كل مرشح فيها.

وعليه، ووفق المعلومات غير الرسمية المتوافرة من شركات إعلانات الطرقات أن المبلغ المرصد من قبل مجموع المرشحين بلغ نحو 650 مليون دولار أميركي، وذلك بنسب متفاوتة بين مرشح وآخر، مما يعني أن كل مرشح من أصل 976 مرشحًا قد أنفق 665 الف دولار، أي ما يفوق سقف الإنفاق الإنتخابي الذي يسمح به القانون ست مرّات، من دون إحتساب كلفة المهرجانات والمآدب والإعلانات في الإعلام، التي وصلت إلى أرقام خيالية.

وهذا الأمر يقود المتابعين إلى طرح أكثر من سؤال عن جدوى القوانين إذا لم تكن موضوعة لتطبق أو لكي يُحاسب من يتجاوزها، مع العلم أن القانون المتعلق بهذه الإنتخابات واضح ومضبوط من حيث النصوص، إذ يشترط أن تُرفع السرية المصرفية عن كل مرشح الملزم بفتح حساب إنتخابي خاص بالعملية الإنتخابية، وذلك لكي تسهل على الهيئة المشرفة على الإنتخابات عملية المراقبة والضبط.  

وبغض النظر عن تجاوز بعض الحملات الإنتخابية السقف المحدّد، فإن ثمة قطاعات كثيرة مستفيدة من هذا الانفاق، وهي الاعلام والاعلان، والمطاعم والفنادق في ضوء الاحتفالات والمهرجانات التي تقام هنا وهناك، بالاضافة الى افادة قطاعات اخرى بطريقة غير مباشرة مثل صناعة الأعلام والمحروقات واستئجار السيارات، وقطاع النقل العام لا سيما يوم الانتخابات.

وهذا الانفاق في هذه القطاعات يُصنّف ضمن دائرة الانفاق المقونن أو المعلن، إلاّ أن ثمة انفاقًا غير مقونن وغير معلن، وهو الذي يدخل في باب الفساد والرشوة عبر شراء الأصوات وغيرها من الطرق الملتوية لتجيير الأصوات الانتخابية. وهذا ما يجب مراقبته بعدما حدّد رئيس الجمهورية في رسالته التي سبقت العملية الإنتخابية للبنانيين المغتربين ضوابط تحذيرية من عملية شراء الأصوات، واصفًا الذين يشترون أصوات الناس بأنهم لن يتوانوا عن بيعهم وبيع الوطن معهم.

(أندريه قصاص)