أولاً: الرئيس بري..منازلة الإقطاع الوهمية
افتتح الرئيس نبيه بري أولى معاركه الانتخابية بعد اتفاق الطائف عام 1992 بخطابٍ ناري على ضفاف نهر الليطاني (قبل تلوُّثه طبعاً)، مُوجّهاً سهامه للاقطاع السياسي في الجنوب، الإقطاع مهيض الجناح، والذي كان آخر مُمثّليه (حسب زعم بري) في تلك الدورة الانتخابية الرئيس الراحل كامل الأسعد، وبعد اكتساح مقاعد الجنوب النيابية بكاملها (عددها 23 مقعداً) وقف مرّة ثانية ليتباهى بالقضاء على إقطاعٍ عمره قروناً من السنين، الإقطاع المسؤول عن فقر الجنوبيين وتخلُّفهم وشقائهم، حتى أقبل الفارس المنتظر نبيه بري ليفتتح صفحة جديدة مليئة بالآمال والوعود المرتجاة لخلاص الطائفة الشيعية على هدي الإمام "المُغيّب" موسى الصدر وبركة "الولي الفقيه "في "إيران". وكان الرئيس بري قد حسم المنازلة مع الحركة الوطنية اللبنانية (ذات الإتجاه الماركسي) عام 1982 في ظلال الحرب الإسرائيلية بقوله المشهور، والذي ما زال ساري المفعول "لا عودة لما قبل العام 1982."
إقرأ أيضا : تصعيد بين بري وباسيل ينسحب على خط التيار ـ المرَدة
ثانياً: النظام المقاطعجي مات مُخضباً بدمه عام 1843
لم يتناه لأسماع الرئيس بري أن النظام المقاطعجي سقط مضرّجاً بدمه (كما يقول فواز طرابلسي في كتابه تاريخ لبنان الحديث) في الفترة التي آذنت بنهاية أمارة جبل لبنان وقيام نظام القائمقاميتين عام 1843 الذي قسّم لبنان إلى منطقتين إداريّتين وفاقم النزاع حول هويته، ودارت بعد ذلك الحروب والانتفاضات العامية، والضربات الاستباقية التي شنّها المقاطعجيون، وتواصلت الحروب الأهلية من العام 1841 حتى العام 1861 مُعلنةً الانتقال الدموي من النظام المقاطعجي إلى الرأسمالية الطرفية، وبانهيار النظام المقاطعجي، ذي الرّكيزة الدرزية، انهارت معه الغلبة الدرزية السياسية على جبل لبنان، ليحُلّ محلّها نظام التمثيل السياسي الطوائفي.
إقرأ أيضا : إنتخابات المُغتربين لأول مرة في تاريخ لبنان ... بين الشكوك والنجاح
ثالثاً: الطائفية السياسية هي التي خرجت مُعافاة مع اتفاق الطائف
خرج لبنان منذ زمن المتصرفية من النظام الإقطاعي، لم يبق سوى بعض رجالاته بلا حولٍ ولا طول مع قيام دولة لبنان الكبير، التي أرست نظام المحاصصات الطائفية، وما يستتبع ذلك في المؤسسات الدستورية والتمثيلية، ويبدو أنّ الرئيس بري لم يُعرّج في حياته السياسية على البرنامج المرحلي الإصلاحي للحركة الوطنية اللبنانية الذي أطلقته في آب عام 1975، الذي أكد على أنّ الطائفية السياسية هي السّمة الرئيسية للنظام، ومنها تنبع مختلف مظاهر الخلل الرئيسية التي يعانيها النظام السياسي اللبناني، الطائفية السياسية (لا الإقطاع البائد) هي التي تقوم بوظائف حماية الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المهيمنة.
النظام الطائفي المتبع، هو الذي يكرس علاقات عشائرية مُتخلّفة تحجب الكفاءات عن الظهور والقيام بدورها. النظام الطائفي هو الذي يستولد مجالس نيابية وتمثيلية مُزيّفة وعاجزة.
الوزير جبران باسيل يُنازع الرئيس بري (ومن ورائه الثنائية الشيعية) المحاصصات الطائفية، ويطالب بحصته جهاراً نهاراً، لذا لن تكون منازلته يا دولة الرئيس بسهولة القضاء على الإقطاع الموهوم، فلا تستغربنّ أن تراه كلّ يوم في طول الجنوب وعرضه، بعد أن كان قد وصل إلى رميش على الحدود الجنوبية.