يبدو أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد تمكّن أخيراً من السيطرة على أعصابه، وتركيز جهوده على جبهة واحدة بدلاً من الحرب على كلّ الجبهات مع الجميع، لكن ذلك لم يكن ليتمّ من دون إسهامات معتبرة في تنظيم هذه العملية من جانب اللوبي الإسرائيلي والمخابرات المركزية الأميركية، اللذين تمكنا أخيراً من الوصول إلى مكتب ترامب.

 

 وبعد الرعب الذي أصاب العالم من التهديدات المتبادلة حول البرنامج النووي الكوري، والوعود التي أطلقت بمحو عاصمتي الكوريتين من على وجه الكرة الأرضية، بدا الرئيسان الكوريان خلال لقائهما أكثر رومانسية من ترامب وماكرون اللذين التقيا  الأسبوع الماضي، أثناء زيارة الرئيس الفرنسي للولايات المتحدة. علاوة على ذلك فقد أعلن الرئيسان الكوريان نيتهما وضع نهاية لحالة الحرب، والمضي قدما لجعل شبه الجزيرة الكورية منطقة خالية من السلاح النووي.

 

بطبيعة الحال.. ليس هذا التطور المفاجئ للأحداث سوى قمة جبل الجليد، لأنه يأتي نتيجة للتوافقات التي ربما توصل إليها مايك بومبيو (الذي كان وقتها لا يزال رئيسا للمخابرات المركزية الأمريكية) أثناء زيارته إلى كوريا الشمالية مؤخراً. وإذا كان من الممكن اعتبار تصريح الزعيم الكوري الشمالي حول وقف التجارب النووية وإغلاق موقع التجارب هو مبادرة أحادية الجانب، فإن لقاء الزعيمين لا يمكن تصوّره بأي حال دون مباركة الراعي الرئيسي لكوريا الجنوبية.. الولايات المتحدة الأميركية.

 

لقد وصف ترامب اللقاء بأنّه تاريخي، لكنه في الوقت نفسه صرّح بأنّه لا يزال هناك بعض المآخذ على بيونغ يانغ. وعلى الرغم من أن الاختراق في المواقف لا يزال في مرحلة الكلمات، أجد أن التقديرات المبالغ فيها لنتائج الزيارة سابقة لأوانها، ومع ذلك فمن الواضح أن الولايات المتحدة قد وضعت الموقف في شبه الجزيرة الكورية في حالة "الإيقاف لحين إشعار آخر"، الأمر الذي يحتمل إمكانية متابعة تسوية الأزمة، كما يحتمل معاودة الضغط من جديد.

 

في الوقت نفسه، يجدر بنا أن نعود إلى زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الولايات المتحدة، حينما لم يتجشم ترامب عناء ليّ يدي ماكرون، كي يوافق الأخير على كل ما تخطط إليه الولايات المتحدة الأميركية، بما في ذلك الخروج من الاتفاق النووي الإيراني. الآن تنتظر واشنطن المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، التي سوف تتوسل إلى الرئيس ترامب لإعفاء الشركات الألمانية من الحظر المفروض على تعاونها مع الشركات الروسية.

 

كما أنّ العناد في قضية الاتفاق النووي الإيراني بالنسبة لميركل الآن لن يكون بالأمر السهل، خاصة بعد خيانة ماكرون، الذي ضحّى بالوحدة الأوروبية، لمجرد أن يتمتع بإمكانية التنزّه يدا بيد بصحبة رئيس الولايات المتحدة الأميركية. سوف يتعيّن على ميركل المسكينة الآن أن تشعر بجزء بسيط من الضغط الذي يمارسه الغرب على بوتين، ولا أعتقد أن يكون بإمكانها تحمله. على كل الأحوال، فحتى لو كانت ألمانيا مستعدة للحفاظ على رأيها المستقل بصدد إيران، فسوف تتجاهل أمريكا هذا الرأي، وسوف تصطف بقية أوروبا في الطابور وراء ماكرون وستتبع أميركا حيث تريد أن تذهب.

 

في نفس السياق انطلق رئيس المخابرات السابق ووزير الخارجية الحالي مايك بومبيو من مراسم تنصيبه الوزاري إلى الطائرة المتجهة إلى بروكسل، حيث المقر الرئيسي لحلف الناتو، ثم إلى إسرائيل، فالمملكة العربية السعودية والأردن، ولم يخف أحد الهدف الملحّ للغاية لتلك الزيارة، وأعلن أنّ ذلك الهدف الملحّ للغاية هو سوريا وإيران...

 

كما لمحنا في الأشهر الأخيرة تصعيدا خارج الشرعية الدولية، وكأنما تصعّد الولايات المتحدة الأمريكية من جهودها لخرق العدد الأكبر من القوانين والأعراف الدولية، ولتستعرض تجاهلها لأي شرعية دولية، حتى في أمور بسيطة مثل اقتحام مقر القنصل الروسي، المغلق منذ تبادل طرد الديبلوماسيين.

 

الولايات المتحدة لم تعد تتصرف في إطار منطق زمن السلم، لكنّها تعيش في واقع آخر، تتمازج فيه الآمال والمناهج القديمة للمخابرات المركزية الأمريكية مع الشغب وازدراء الإتفاقيات اللذين يتميز بهما الرئيس ترامب.

 

بهذا الصدد لا أعتقد أنّ الأدلّة التي قدمتها روسيا وسوريا بشأن إثبات زيف "الهجوم" الكيميائي في دوما سوف توقف العدوان الغربي، إلا أن وجود روسيا على الأرض السورية سوف يجعل أي عدوان شامل من جانب الولايات المتحدة الأميركية والناتو عليها أمرا ضعيف الاحتمال.

 

على كل الأحوال فإن كل ذلك مجتمعاً يطلق صفارات الإنذار في الشرق الأوسط، وبالأساس في إيران التي لم يكن لديها الوقت الكافي، على عكس كوريا الشمالية، لامتلاك الحجج الكافية للحوار مع الولايات المتحدة الأميركية.