كثُر الكلام في الآونة الاخيرة عن الجامعة اللبنانية، عن مشكلاتها والتحدّيات التي تواجهها، واحتدم النقاش حول مفهوم خصوصية الاستاذ الجامعي، ومدى أحقّية الاضراب المُعلن منذ اسبوعين (من قبل رابطة الاساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية) والهادف الى زيادة تطال المعاش من خلال إعطاء ثلاث أو أربع درجات للاستاذ الجامعي، اسوةً بالقضاة.
ولكن وبالفعل، ما هو مطلب الاستاذ الجامعي؟ في واقع الامور، يطلب الاستاذ الجامعي، اليوم وأكثر من ايّ وقت مضى، أن يُعطى ما يستحق من الاحترام والمكانة، و بعد ذلك كل شيء يُعطى له و يُزاد.
رجل الامن يُحترم لأنه يُضحي بنفسه للدفاع عن الوطن، والقاضي يُجَل لأنه يحكم باسم الشعب اللبناني ويعطي كلَّ ذي حقّ حقه... أما ذلك الذي درس على الاقل عشر سنوات في الجامعة ليحصل على شهادة دكتوراة، ذلك الذي علّم القضاة وسواهم ليصلوا الى ما هم عليه من درجات العلم والثقافة، يجد نفسَه مُلزماً (في غالب الاحيان) بطلب الشفاعة من «المقتدرين» في الدولة ليتعاقد للتدريس في الجامعة اللبنانية، وهو خلال فترة التعاقد هذه، والتي غالباً ما تطول لسنوات عدة، يتقاضى مستحقاته بعد سنتين من تاريخ الاستحقاق! وعند حصول التفرّغ، ولن ادخل في تفاصيل وحيثيات إنجاز الملف، يُمنع الاستاذ المتفرّغ من مزاولة التعليم أو أيّ عمل مأجور خارج الجامعة اللبنانية، إذ إنّ الاستاذ المتفرّغ يتعهّد بوضع مجهوده الفكري وقدراته العلمية بخدمة الجامعة اللبنانية بشكل حصري.
اذاً، وبشكل مختصر،عندما نتكلّم عن خصوصية الاستاذ الجامعي نحن لا نقصد افضلية الاستاذ الجامعي وحقوقه التي يتمايز بها عن غيره، إنما المقصود بهذه الخصوصية اكثر من خمس وعشرين سنة من الدراسات والأبحاث، تبدأ من المدرسة ولا تنتهي عند الفوز بشهادة الدكتوراة. هي رحلة طويلة وشاقة تبدأ بالحصول على ساعات للتعاقد، تستمرّ خلال التعاقد ولا تنتهي عند التفرّغ.
والجدير ذكره، أنّ الاستاذ الجامعي لم ينل يوماً حقوقه دون اللجوء الى الاضراب، وفي السنوات الاخيرة اضطُر الى التظاهر على الطرقات وفي الشوارع والساحات. بعد كل ذلك، هل يبحث الاستاذ الجامعي فقط عن زيادة في الأجر؟ حتماً لا. فمطلب الاستاذ الجامعي هو أن يعرف الجميع أنه يصنع المعجزات.
فالاستاذ في الجامعة اللبنانية يُساهم في تعليم وتثقيف اكثر من 75 ألف طالب وطالبة، معظمهم لا يستطيع تحمّل الأعباء المالية في الجامعات الخاصة، وهؤلاء الطلاب هم من الطبقات الاكثر حاجة للاهتمام، التعليم والحب المجاني، وهذا تحديداً ما يقوم به الاستاذ الجامعي وهذه المعجزة الاولى.
الاستاذ الجامعي يُخرّج الطلاب الاكثر تفوّقاً في أهم الاختصاصات رغم قلّة الإمكانيات المتوافرة، وهذه المعجزة الثانية.
الاستاذ الجامعي يعيش الانفتاح الحقيقي مع الآخر، إذ إنّ الجامعة اللبنانية تضمّ «الجميع»، ووجود الجميع بشكل أو بآخر، بنجاح هذه التجربة احياناً وبفشلها في أحيان اخرى هو بحدّ ذاته معجزة.
في النهاية، إذا كان من الضروري أن يُصلبَ كل مَن يقوم بالمعجزات، إلّا أنّ القيامة حتمية، ورغم كل الأزمات التي تطالها اليوم، لا بدّ أنّ قيامة الجامعة اللبنانية آتيةٌ لا محال، وسبب هذه القيامة حبّ الأساتذة الصادق للجامعة وشعورهم العميق بعظمة رسالتهم تجاه طلابها، علّها تكون مقدّمةً لقيامة الوطن، لبنان.
(د. دانيال مرعي القطريب)