في الأساس، ليس سرّاً أنّ جنبلاط يريد قانوناً غير القانون الحالي المشكو منه، الأفضل لو تمّ الإبقاء على قانون الستين أو الوصول الى قانونٍ يشبهه. بالمقدور عليه، حاول جنبلاط، ولكن من دون أن ينجح في وقف الموجة التي فرضتها لحظة سياسية ضربت العقل السياسي، فالتقت فيها مصالح بعض «ديوك» الطوائف الكبرى، وأنتجت الواقعَ المعاش حالياً بكلّ إرباكاته والتباساته الى حدّ لم يعد يُعرف فيه طربوش مَن على رأس مَن؟
في نهاية الامر، وقع «الديوك» وأوقعوا معهم البلد في شرّ رغباتهم ومصالحهم. صدّقوا القانون، ولقّحوه بتفاصيل أفقدته مناعته المفقودة أصلاً، وفي النهاية صار هذا القانون أمراً واقعاً، وملزماً، لإجراء الانتخابات النيابية على أساسه في أيار.
قالوا إنّ الانتخابات التي ستجري في الربيع، على أساس قانون سيأتي بربيع جديد على لبنان، نيابي، سياسي، حكومي، وعلى كل المستويات، لكنّ التبشير بالربيع سقط أما الجوّ العام الذي لم يرَ في هذا القانون سوى خريف على لبنان، لا تتساقط فيه كل الاوراق فحسب، بل تتساقط كل الاحلام والآمال والطموحات التي بُنيت عليه.
على طريقته، قارب وليد جنبلاط هذا المولود المشوَّه كبنيان، والمشوِّه للصورة التمثيلية، فأسقط على هذا القانون الوصف تلو الآخر: «مزعج»، «معقّد كأصحابه»، «غير مفهوم»، «خنفشاري»، مارق، الى جانب الموّال الشهير، الذي عكس فيه سخرية موجعة ومعبّرة في آن معاً، من قانون «ريدوني ما من ريدك.. شب منيح الله يزيدك». وانتهاءً بالتغريدة التحذيرية الذي واجه فيه المنتشين بهذا الإنجاز: «خرجنا بقانون آية في الغموض، نهايته ستكون عاطلة مع تفسيرات متناقضة، وليس فيه إنجاز إلّا الأسهم فقط».
ولعلّ هذه النهاية العاطلة قد أسّست لها ايضاً اللوائح التي تَشحن الى المجلس النيابي، مجموعات ممَّن لا صلة لهم من قريب أو بعيد، لا بعالم القانون، ولا بعالم التشريع، ولا بعالم السياسة، ولا بأيّ تفصيل صغير مرتبط بالحياة النيابية، فأيُّ تشريع سيخوضه هؤلاء، وأيُّ قوانين ستخرج من تحت أيديهم؟ هذه الصورة ارتسمت امام جنبلاط، فلم يجد سوى التهكّم على ما هو آتٍ بقوله: الله يعينك يا نبيه بري على هيك مجلس... متل سوق الأحد».
المشكلة كما يراها جنبلاط لم تعد فقط في ما بات يُسمى «قانون الغدر» و«قانون القسمة بين اللبنانيين»، بل إنّ المشكلة الأعمق والأخطر، يراها في العقلية التي فضحها الزمن الانتخابي؛ عقلية تبدو في ظاهرها امام الناس، وكأنّها ترشح زيتاً، وإصلاحاً، وتغييراً، وعفافاً، وطهارة، ورُقياً، وحضارة، فيما هي في حقيقتها عقليّة متخلّفة، قدمت للبنانيين نموذجاً فاقعاً لا مثيل له، في الدجل السياسي، وفي التجارة الرخيصة في سوق المقاعد.
ليس سرّاً أنّ جنبلاط أراد أن يبدأ ابنُه تيمور انتقاله نحو زعامة البيت الجنبلاطي، والاشتراكي بطبيعة الحال، بسلاسة، دخولاً من الباب النيابي بلا أيّ معكّرات أو منغّصات لهذا الحدث المرتبط بصميم هذا البيت، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
كان يمكن لهذا الانتقال أن يتمّ بمنتهى السهولة، ودون عناء، لو كان قانون الستين ما يزال على قيد الحياة، أو كان أمكن الوصول الى قانون يشبهه، لكنّ القانون الجديد المشكو منه، فرَض على جنبلاط التحدّي الكبير المتمثّل بالصمود في وجه العاصفة، وعدم الإنحناء في «معركة الأحجام»، التي جعلها بعض «ديوك» الطوائف الكبرى، عنواناً لانتخابات أبار، وبالتالي تجاوز هذه المعركة على نحوٍ يؤمّن العبورَ الآمن لتيمور، مع الحفاظ على الحجم السياسي للبيت الجنبلاطي، وكذلك الحجم النيابي الذي يحسب حسابه.
وفي هذا الاتّجاه، حدّد جنبلاط خريطة طريقه في مؤتمر الحزب التقدمي الاشتراكي في شباط الماضي والأساس فيها:
- اولاً، الهدوء ثم الهدوء، ثم الهدوء.
- ثانياً، ضد ايّ مسّ باستقرار البلد.
- ثالثاً، لا للفتنة في لبنان، وكل الامور تُحلّ بالحوار.
- رابعاً، لا فتنة داخل الطائفة الدرزية، مهما كلف الامر، بل لن يتمكّن احدٌ من استدراجنا الى هذا الامر، وليس مسموحاً ابداً تخريب الطائفة أو تخريب الجبل، أو تخريب البلد من الباب الدرزي.
- خامساً: لا للإساءة للمصالحة في الجبل، ولا لأيّ أمر يمكن أن يهزّها أو يعكّرها.
- سادساً: نعم لكل ما يؤكّد الشراكة ويحافظ عليها.
- سابعاً: المعركة الانتخابية نخوضها بكل روح رياضية، وبكل بساطة لا نريد مشاكل، نائب بالزايد أو نائب بالناقص ليس هذا هو المهم، فإن ربحنا نواباً وخسرنا البلد، فأيُّ ربح هذا؟ وإن ربحنا نواباً وخسرنا المصالحة، فأيُّ ربح هذا؟ وإن ربحنا نواباً و«فرَط» الجبل، فأيُّ ربح هذا؟ وإن ربحنا نواباً وخرّبت الفتنة الدروز فأيّ ربح هذا؟
وتحت هذا السقف، تحرّك جنبلاط تحضيراً لانتخابات السادس من أيار، وفريقه يقول إنه من البداية طرق كل الأبواب، ولم يترك فريقاً سياسياً، في الجبل تحديداً، أو فريقاً معنياً بانتخابات الجبل، إلّا وحاوره، منعاً لأيّ احتكاك وتخفيفاً من احتقان البلد، إذ يكفي البلد ما يعانيه من مشاكل، وسعياً الى اتّفاق شامل وجامع حرصاً على الوحدة الوطنية وعلى الشراكة وعلى المصالحة، وعلى الجبل بالدرجة الأولى.
وعلى ما يقول هؤلاء «حكينا بالجملة والمفرق مع الجميع من دون استثناء، وفي النتيجة إنّ أطرافاً رفضت التوافق معنا، فاحتُرِم رأيها، إذ لا مجال لإجبارها على ما لا تريده، وأطرافاً أخرى قبلت. ومن هنا جاء تحالفنا الانتخابي مع تيار المستقبل في الشوف والبقاع الغربي وبيروت وكذلك تحالفنا في الجبل مع الشريك المسيحي .. أي «القوات اللبنانية»، وتحالفنا مع حركة «أمل» في حاصبيا».
أما في الشق الدرزي فقد بادر جنبلاط الى إلغاء كل المهرجانات التي يمكن أن تُستَغل لإحداث احتكاكات، وصدر عنه توجيه صارم لكل الاشتراكيين والمناصرين مفاده: «ليس بالصور والأعلام والمهرجانات نربح الانتخابات، بل بالهدوء وبالذهاب بكل اطمئنان الى صناديق الاقتراع يوم الانتخاب».
وفي هذا الجانب ايضاً، يقول هؤلاء إنّ جنبلاط مدّ يده من البداية الى «المير» طلال أرسلان للتحالف، وظلّ على هذا المنوال حتى ما قبل ساعات قليلة جداً من إعلان لوائحه وتحالفاته وتحديداً في الشوف وعاليه، عرض عليه الشراكة بالبيت الدرزي، إلّا أنّ «المير» يبدو أنه حسم موقفه مسبقاً، فرفض الشراكة لالتزامه مع «التيار الوطني الحر».
لكنّ المثيرَ للريبة، وما هو أكثر من ريبة على ما يقول الجنبلاطيون هو دخول بعض الأطراف السياسية على الخط، كـ«الغول» الذي يريد أن يبتلع كل شيء، ليس في الجبل فحسب، بل في كل لبنان.
هذه الاطراف، او بالاحرى هذا «الغول» دخل لعبة شديدة الخطورة لإحداث شرخ بين الدروز، و فتنة درزية درزية، فاصطدم بسقف وليد جنبلاط «لا فتنة بين الدروز مهما كلف الامر». ودخل في لعبة أخطر لإحداث مشكلة مسيحية درزية عبر استخدام لغة طائفية مقيتة، استعاد فيها لغة الحرب ونبش المقابر والعظام، فقط من اجل مقعد هنا أو مقعد هناك.
وايضاً تمّ إفشال هذا الهدف الخبيث، ولم نُستدرج الى لغتهم التي حاولوا من خلالها تزوير الذاكرة وتقديم أنفسهم ملائكة أطهار أياديها بيضاء نظيفة لم تتلطّخ في زمن الحرب، فيما الذاكرة نفسها، لم تنسَ، ولا تنسى، أنهم أنفسهم كانوا من «شياطين الحرب»، وما فعلوه هم في مناطقهم لم يكن نزهة، ولا رحلة سياحية، بل كان حرباً تدميرية ساحقة، لا يستطيعون أن يقولوا إنهم أبرياء منها ولا علاقة لهم بها.
ما هو غير مفهوم لدى الجانب الجنبلاطي أنّ طرفاً سياسياً يرفع شعار الاستقرار ويصوغ ما سمّوها «تسوية سياسية»، فيما معناها الحقيقي والأدقّ «اتّفاق مصالح»، تحت عنوان حفظ الاستقرار في البلد. فيما هذا الطرف نفسه يقدّم خطاباً تدميرياً وأداءً مذهبياً يهزّ البلد؟!
على مسافة أيام من الاستحقاق الانتخابي ثمّة نصيحة جنبلاطية «الخطاب المذهبي يرتدّ سلبا على الجميع، فليذهب الناس الى صناديق الاقتراع بكل هدوء، وليخترْ كل واحد منهم مَن هو مقتنع به، ولنذهب بعد الانتخابات الى محاولة بناء الدولة، التي هي الضمانة الوحيدة لكل الناس.. الدولة اليوم تحتضر والاستمرار بهذا الجوّ سيؤدّي الى تفكّكها وانهيارها وبعد سقوط الهيكل لن يستطيع أحدٌ أن يغطي رأسه ويقول إنه في مأمن من الخطر.