هناك درجات من «التجارة بالمرشحين»، ودرجات من «التجارة بالناخبين»:
الزعيم السياسي (غالباً ما يكون زعيم اللائحة أيضاً) يحتفظ بـ»خزنة» أو اثنتين أو أكثر في اللائحة، وفقاً للحاجة. و»الخزنة» هي عبارة عن كيس أو مرشح (عادة يكون فيه توازنٌ لذيذٌ ما بين الثراء بالمال والفقر بالحضور السياسي والشعبي والقدرات الفكرية).
هذا المرشّح يدفع الملايين لزعيم يبيعه الصورة على اللائحة. وأما ضمان المقعد النيابي فله سعر آخر. وعادةً، يُطلَب إلى المرشحين- فئة الخزنة - أن يسدِّدوا كل مشتريات اللائحة وزعيمها وعوائله في لبنان والمهجر… وأبرزها الناخبون والمفاتيح والنافذون.
عادةً، هذه الفئة من المرشحين تصل مُنهَكة جسدياً ونفسياً إلى المجلس بسبب الأعباء التي أُلقيت عليها خلال العملية الانتخابية، والتي ستُلقى عليها خلال وجودها في المجلس النيابي، إذ ستحافظ على وظيفتها كـ»خزنة» للزعيم وجماعاته وعائلته أو عوائله.
خلال وجودها في المجلس، تعاني هذه الفئة مشاعر الكبت والدونيّة. وغالباً ما يضعها الزعيم في الظلّ. وهي أساساً لا تمتلك المواهب التي تسمح لها بالبروز داخل السلطة التشريعية. وفي أيّ حال، أين التشريع والمشرّعون في المجالس اللبنانية المعاصرة؟
هذه الفئة من «النواب» تَعتبر أنها دفعت غالياً ثمن الزعيم وثمن الناس وثمن المقعد، ويحقّ لها أن تستردّ الثمن بأيّ طريقة:
1 - التعسُّف مع الناس «المدفوع ثمنهم»!
2 - انتظار الزعيم عند أول «كوع» للانتقام منه.
3 - استثمار الموقع النيابي لتعويض الثمن، بأيّ طريقة. وهنا يكمن أحد أبرز المنزلقات إلى الفساد.
كل عناصر اللعبة يعرفون أصولها، وهم راضون: الناس والزعيم والنظام الذي يرعى المؤسسات. وسُمِع كثير من الناخبين يقول: ما دام المرشح فلان دبَّر طريقة لوصوله بنحو مضمون إلى المجلس.. فلماذا لا أقبض منه الرشوة؟ «شعرة من ابليس خير منه». هذه فرصتي الوحيدة لأخدعه. سأقبض منه وأنتخب سواه وراء الستارة!
وأساساً، يتعرّض الناخب لضغوط ترغيب وترهيب من اللوائح المدعومة بقوى السلطة، والمرشّح - «الخزنة» له دوره في الترغيب. ولذلك، يقول بعض الناخبين: لن نُسَوِّدَ وجهنا مع هذه اللائحة. هم يغدقون علينا الوعود، ونحن سنعدهم بالاقتراع لهم. لكننا في الحقيقة سنقترع لآخرين وراء الستارة.
كلام الملايين المتطايرة يُسمَع بقوة في دوائر عدّة تستشرس فيها اللوائح التي تصنّف نفسها «لوائح السلطة»، كالمتن وجبيل - كسروان والشوف - عاليه وزحلة وسواها. ولكن، على رغم ما يُحكى عن المال، يُدرك ذوو النفوذ المخاطر الناجمة من ارتفاع منسوب القرف لدى الناخبين، وهم يخشون صدمة في 6 أيار.
إذا كان كل الناس يتداولون الكلام عن الرشاوى بملايين الدولارات، التي يقدمها المرشحون الأغنياء لرؤساء اللوائح ورؤسائهم وللناخبين والمفاتيح الانتخابية على حد سواء، فمَن هي الجهة التي عليها التدخّل لكشف الفضيحة وإحباطها قبل أن تكتمل فصولها؟
أخبار الملايين متداوَلة بكثرة، على أَلسِنَة مرشحين وسياسيين ومواطنين ووسائل إعلام، وهنا نماذج قليلة منها:
- مرشح ثري في المتن، على لائحة تحسب نفسها لائحة السلطة، يقال في بعض الأوساط إنه يُحرِّك عشرات الملايين من الدولارات خلال حملته الانتخابية، حتى الآن.
- مرشح في بيروت يتَّهم منافسه، على لائحة الفريق السياسي إياه، بأنه ارتكب فساداً بـ100 مليون دولار خلال ممارسته منصباً عاماً، وأنّ الملف قيد الحفظ.
- مرشّح في بيروت يتحدث عن «رَشّ» أموال وفيرة للناخبين، ويتّهم 3 لوائح باستخدام الرشوة الانتخابية.
- وثّقت جهات معنيّة بمراقبة الانتخابات عمليات رشوة انتخابية في دوائر مختلفة، من الشمال إلى الجنوب. والمشكلة الأكبر تكمن في المال الموزَّع نقداً (كاش) حيث لا ضوابط على خروجه من الكيس ولا دخوله في الجيب. ويتردّد أنّ ملايين الدولارات توزّع بهذه الطريقة.
- يجري استقدام الناخبين من الخارج على نفقة جهة معيّنة لضمان مزيد من الأصوات. وهذا ما يُعتبر رشوة أيضاً.
في أيّ حال، حدّد القانون سقفاً عالياً للإنفاق الانتخابي، ما يُعتبر رشوةً مبطنة.
هذا الواقع يَقسم المرشحين إلى 3 فئات: فئة الفاسدين من الأثرياء الذين يستغلّون قدراتهم المالية لزيادة حظوظهم. وفئة الفقراء العاجزين عن استغلال عنصر المال... وفئة الشرفاء الذين يمتلكون القدرات المالية، لكنهم يرفضون استغلاله انتخابياً.
كما يَقسم الناخبين إلى 3 فئات: فئة الذين يقبلون الرشوة ويقترعون للمرشح الراشي، وفئة الذين يقبلونها ويقترعون لمرشح آخر، وفئة الرافضين قبول الرشوة في المطلق.
ويقدّر الخبراء أنّ الانتخابات الحالية هي واحدة من أكثر الانتخابات فساداً، سواءٌ في الرشوة الانتخابية أو استغلال السلطة. ويكفي أن يضع المرشحون ذوو النفوذ ممتلكات الدولة وأجهزتها وأدواتها وموظفيها ووسائل إعلامها في خدمة جولاتهم الانتخابية ليظهر الخلل الفاضح.
هل يمكن الخروج من المأزق؟
الهامش بات ضيّقاً جداً. فالمسافة الفاصلة عن 6 أيار باتت أياماً. وأساساً، لم يكترث أحد للمعلومات والشكاوى والأخبار المتداوَلة عن الرشاوى، وإن يكن بعضُها موثّقاً، ما يوحي بأنّ الأمور سائرة إلى يوم الانتخاب بلا ضوابط.
عملياً، هيئة الإشراف على الانتخابات هي المولجة ضبط الفلتان. وجاءت استقالة سيلفانا اللقيس منها لتكشف خللاً متعمَّداً افتعلته السلطة لإبقاء الهيئة مشلولة.
وإذ كان يؤمَل أن تُحْدِث الاستقالةُ زلزالاً يعيد الأمور إلى نصابها، جاء المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيسها القاضي نديم عبد الملك، ليكشف أنّ الأمل مفقود. فالتفسير الذي أعطاه القاضي لدور الهيئة يلائم ذوي السلطة.
الهيئة، وفق هذا التفسير، وظيفتها أن تجمع آلاف آلاف الملاحظات والمعلومات والتسجيلات والوثائق الصحافية والإعلامية والمصرفية والمالية التي تحتاج إلى فريق يضمّ العشرات، ولشهور عدّة، وتنتظر مرور الانتخابات واحتمال الطعن فيها، لكي تعلن ما إذا كانت هناك مخالفات أم لا. وهي لا تتحرّك إلّا بطلب من المجلس الدستوري.
يعني ذلك أنّ الهيئة ذاتها تضطلع بدور»الخزانة» التي تُرمى فيها كل الوثائق والمعلومات... التي قد تتمّ العودةُ إليها يوماً أو لا تتمّ، فيما الأخبار متداوَلة عن رشاوى بالملايين قبل الانتخابات.
قد ينتج عن الانتخابات مجلس نيابي مزوَّر بنسبة معيّنة، بسبب الرشاوى، إذا كانت الأخبار صحيحة. وأما الأجهزة التي تمتلك حاسّة شمّ عالية في بعض المسائل، فهي تفقد هذه الحاسّة تماماً في موضوع الرشوة. ويقال إنّ بعض الأجهزة يتعاطف أساساً مع بعض السلطة انتخابياً.
الواضح أنّ هيئة الإشراف تنتظر الطعونَ بعد الانتخابات. ولكن، قد يكون صعباً على المجلس الدستوري أن يتحقّق بدقة من صوابية الطعون، خلال 30 يوماً، خصوصاً إذا كانت كثيرة، نظراً إلى الحجم الهائل من الوثائق والملفات الإعلامية المرئيّة والمسموعة والمكتوبة والفواتير المصرفية والشهادات والإخبارات التي يجدر درسها.
على الأرجح، إذا حصلت طعون، سيغرق الجميع تحت ضغط الوقت وغموض الوثائق و»يمشي الحال». وعندئذٍ، بالتواطؤ، ينجو ذوو السلطة بمخالفاتهم في الانتخابات النيابية كما هم ينجون بالتواطؤ في مجلس الوزراء، ويمرِّرون «الجَمَل من خِرم الإبرة»!