تستمر بعض المؤسسات العربية والإسلامية والدولية في إطلاق المبادرات المتنوعة من أجل وقف الصراع المستمر في العالم العربي والإسلامي، وتركز بعض هذه المؤسسات على الجانب المذهبي والديني للصراع، فيما تحاول مؤسسات أخرى العمل لإصلاح المؤسسات الدينية والخطاب الديني ومؤسسات التعليم المختلفة، وتركز جهات أخرى على الأبعاد السياسية والاستراتيجية والجيوسياسية للصراع، ودور القوى الإقليمية والدولية في تأجيج الصراعات بحثا عن الثروات النفطية والأموال ولتأمين أسواق جديدة للأسلحة والخبرات العسكرية والأمنية على اختلاف تنوعاتها.
ومن المبادرات الجديدة التي يتم العمل لإطلاقها في المرحلة المقبلة المؤتمر الشامل الذي يعقده الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين قبل نهاية العام الحالي حول "الإصلاح والمصالحة العربية والإسلامية"، والذي سيعقد في إسطنبول على هامش الجمعية العامة للاتحاد في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.
وقد أطلق الاتحاد دعوة مفتوحة لأعضائه وللعلماء والباحثين والكتّاب من أجل المساهمة في أعمال هذا المؤتمر، ويعتبر الاتحاد أن "الخلافات السياسية بين الدول العربية والإسلامية قد تجاوزت الحدود، وأضرّت بالمصالح العامة لجميع الفرقاء، وبقضايانا العامة، مثل قضية فلسطين، وكذلك الخلافات بين الأحزاب السياسية والجماعات الإسلامية قد بلغا النخاع. وأمام هذه الأوضاع المؤلمة، لا بد أن يكون للعلماء دورهم في الإصلاح والنصح والترشيد والتوجيه".
وقد وضع الاتحاد في الورقة التأسيسية للمؤتمر القادم مجموعة مبادئ وأسس يمكن الانطلاق على أساسها لمعالجة الأزمات القائمة ومنها:
أولا: إنّ الاختلاف بين المسلمين قديم وسيكون باقيا، ولكنه قد يكون اختلافا إيجابيا فيه الثراء وفيه العطاء، كما هو شأن الخلافات المذهبية الفقهية التي انتهت إلى تلك المدوّنة الفقهية التي هي مفخرة للمسلمين، وقد يكون سلبيا مدمّرا كما نراه اليوم بين الجماعات التي تنشر الفوضى وتعيث في الأرض بالفساد.
ثانيا: إنّ المصالحة بين المسلمين لا يمكن أن تهدف إلى نزع الاختلافات بينهم بإطلاق، فذلك غير ممكن بحسب طبيعة العقول في الفهم، وبحسب طبيعة الدين في ظنّية بعض نصوصه المؤسّسة قرآنا وسنّة، ولكنّ المصالحة الفاعلة تكون بترشيد الاختلاف وتوجيهه وجهة الثراء والعطاء والنماء بدل وجهة الفتنة والفناء، ولا يكون ذلك إلا بإصلاح عميق لمنهج فهم الدين وتنزيله أولا، ثمّ بإصلاح في ثقافة التعايش بما تقتضيه من الحوار ومن التسامح والإعذار، فهي إذن مصالحة تقوم على الإصلاح.
ثالثا: لا يمكن أن تتمّ المصالحة بين الفرقاء المسلمين من المذاهب والطوائف إلا على أساس من إصلاح منهجي في فهم الدين ينتهي إلى إصلاح في المفاهيم التي تسبّب الفرقة. فحينما يلتقي كلّ الفرقاء على صعيد مشترك في منهج الفهم، فإنّ ذلك يؤدّي إلى إصلاح المفاهيم التي تسبّب الفرقة ويؤسّس لثقافة العيش المشترك، وحينئذ فإنّ باب المصالحة بينهم سيكون مشرعا يسهل الولوج منه.
كما طرح الاتحاد عددا من الموضوعات والأفكار التي يمكن البحث والنقاش حولها تمهيدا لإطلاق مبادرة للإصلاح والمصالحة في العالم العربي والإسلامي. ومن هذه الموضوعات الهامة: واقع وأسباب الفرقة بين المسلمين، والحلول المتوقعة والمطلوبة للفرقة، ومنطلقات الإصلاح، والإصلاح المنهجي في فهم الدين، وإصلاح المفاهيم المسببة للفرقة، والمصالحة بين الفرقاء، والخطوات الإجرائية للمصالحة بين المسلمين.
ويمكن القول إن هذه المبادرة الهامة من الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين تشكل خطوة ضرورية لوقف الصراعات والأزمات في المنطقة. وهي تضاف إلى سلسلة الخطوات والمبادرات التي انطلقت، أو هي مستمرة من أجل معالجة الأزمات المختلفة في المنطقة.
لكن بما أن الأوضاع والصراعات المستمرة قد لا تنتظر حتى انعقاد مؤتمر الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، فإنه يمكن للأمانة العامة للاتحاد ورئيسه العلامة الشيخ يوسف القرضاوي البدء بخطوات عملية تساعد في توفير الأجواء المناسبة لنجاح هذه المبادرة، وقد تخفف من حدة الصراعات القائمة اليوم، وهذا يتطلب إجراء مراجعة سريعة ونقدية لكل المرحلة الماضية، سواء على صعيد دور الاتحاد أو القوى والحركات الإسلامية، والقيام بجولة على القيادات والمسؤولين المعنيين لوقف الحروب القائمة اليوم، والدعوة لوقف استعمال العنف والسلاح من كل الدول والقوى في الصراعات القائمة، والجلوس على طاولة المفاوضات لحل الصراعات الأساسية، ولا سيما في سوريا واليمن والعراق وليبيا والبحرين.
ورغم كل الحملات والاتهامات القاسية التي وجهت للاتحاد ورئيسه وقيادته، فإنه لا يزال قادرا على إطلاق مبادرة عملية وحقيقية للإصلاح والمصالحة عربيا وإسلاميا، والظروف الصعبة التي تمر بها المنطقة تتطلب الإسراع في هذه الخطوة كي لا يسقط المزيد من الضحايا ويزداد عدد اللاجئين والنازحين ونواجه المزيد من الدمار والحروب العبثية.