حتى نستطيع تشكيل مقاربة عن مدى تفشي الشعبوية على الساحة السياسية، لابد لنا من محاولة فهم الشعبوية من خلال إطارها العام، ومن ثم إنعكاسها على الواقع، من حيث الشكل، والمضمون، ومدى إنتشارها عمقاً واتساعاً، حيث سيمكننا هذا الفهم من إزالة اللبس عن مفهوم الشعبوية، وبالتالي فهم دورالأحزاب السياسية التي تتفاعل في الساحة السياسية، بشكل أكثر موضوعية، وسيمكننا ذلك من تفسير بعض الجوانب المثيرة للاهتمام في الخطاب السياسي للأحزاب اللبنانية، وإمكانية تشكيل تصور مستقبلي حول تأثيرات هذه الأحزاب على المستقبل السياسي في البلد. توصف الشعبوية على المستوى الأكاديمي على أنها فكرة هشة، أي أنها لا تمتلك أسساَ صلبة أو ثقلاً عقلانياً قوياً يمكنها من أن تصيغ لنفسها مساراً سياسياً واضحاً في سعيها لوضع حلول أو مبادرات في عالم السياسة والمجتمع والاقتصاد وجوانب الانشطة الانسانية الأخرى. حيث ان الشعبوية لا تمتلك رؤية شاملة ، وتقتصر رؤيتها على نطاق محدود جداً من القضايا التي تتبناها على الصعد المختلفة. والشعبوية هي مجموعة من الأفكار غير المترابطة، عندما يتم وضعها على محك الواقع، فإنها تظهر كمجموعة من مفاهيم مختلفة، متناثرة، غير متناسقة، وأحياناً متناقضة. وتتحرك الشعبوية بشكل عام باتجاه خلق حالة أو حالات خصام في المجتمع تفصل بين قطبين على الأغلب، إحداهما متناغم معها وآخر معادٍ لها. إذ تعتمد على تحريك العداء بينهما، وينزع الشعبويون في خطابهم السياسي إلى تبني قضايا تتحرك في أفق الحكم على الأمور من خلال منظار الأبيض والأسود، والعداء مع الآخر الذي يختلفون معه، ويتميزون بضعف أو انعدام الجانب التصالحي في تعاملهم السياسي مع الذين يختلفون معهم. ويغلب في الممارسة السياسية للشعبويين الجوانب العاطفية المثيرة للمشاعر، وإثارة المخاوف لدى الجمهور المستهدف من قبلهم. فالخطاب الشعبوي هو خطاب صراع غير مبني على أسس تغيير أو إصلاح ذات أطر محكمة، ويتحرك في إطار الفن من أجل الفن، ولا ينظر إلى العواقب المحتملة لهذا التغيير. غالباً ما تقاد الأحزاب التي تحمل طابعاً شعبوياً من قبل شخصيات لديها سيطرة طاغية على أتباعها، تتعامل بشكل أبوي صارم وموجّه لهم. وتحاول هذه الشخصيات أن تطرح نفسها على أنها الحامية والراعية لمصالح الفئة التي تقودها، أو التي تدّعي تمثيلها. تنشط الشعبوية في أغلب الأحيان في بلدان تسيطر عليها الاستقطابات السياسية والاجتماعية، ولا تتوفر فيها مؤسسات حكومية ورسمية قوية وناضجة، وتعاني خللاً في أدائها الحكومي والمجتمعي. بالشكل الذي لا تتمكن من خلاله من العمل على وضع مقاربات وحلول تمنع شطر المجتمع إلى أفرقاء متخاصمين حول قضية ما. ويعتبر التذمر الشعبي حول قضايا معلقة وغير مطروحة للحل كضعف التنمية، أو البطالة، أو التمييز، أو ضعف سلطة القانون أو الفساد حاضنة لتفشي الشعبوية. وما يميز طبيعة الذهنية الشعبوية أنها إذا ما استلمت إدارة أي وضع رسمي في البلد، في ظل ضعف مؤسساتي فيه، فإنها تميل إلى أن تتصرف بشكل مزدوج، تتماهى من خلاله بين الخطاب الشعبوي الذي يتحرك على خطوط الاستقطاب المثير للصراع، وعلى خط المؤسسات الحكومية تارة أخرى، كما تقف الشعبوية والتعددية على طرفي نقيض. فالشعبوية لديها نهج أحادي في نظرتها إلى السياسة والمجتمع، وهي لا تنسجم مع أطروحة التعددية ضمن الأنظمة الديمقراطية، التي تؤمن بأن التنوع في المجتمعات والحياة السياسية يعتبر مصدر قوة فيها، خصوصاً أن الشروط السياسية الصحية ينبغي أن تشجع وجود مثل هذا التنوع، حيث تمنع التعددية من تركز السلطة بيد أشخاص أو مجموعات بعينها، طائفية كانت أو حزبية أو غيرها، و بالشكل الذي يمنع تلك المجموعات من فرض إرادتها على الغير.
إقرأ أيضًا: المذهبية والطائفية و«أخطارها»على البناء الوطني
لا ينظر الشعبويون بارتياح إلى المؤسسات الرسمية. وينظرون إليها على أنها تعمل على تحقيق مصالح الآخرين الذين يتصارعون معهم. ويبدو أن النقزة من الأوضاع الرسمية لدى الشعبويين تترك بأثرها على طبيعة الهياكل التنظيمية لأحزابهم. وبالتالي فإن أغلب الأحزاب والتنظيمات والحركات الشعبوية تميل إلى اتخاذ اشكال بسيطة في هياكلها التنظيمية، وتقاد بشكل مركزي من شخص أومن الحلقة القريبة المحيطة به. ويتم اتخاذ القرارات فيها بشكل يميل إلى الفردية. ولأن الشعبوية تخاطب الانسان البسيط بتطلعاته، ومخاوفه، وماضيه ومستقبله، وأفكاره، فإنها تأخذ هذه التطلعات والمخاوف وتصيغها على شكل شعارات، يتم تضخيمها بشكل كبير، وهكذا يمكن فهم مدى تفشي الشعبوية في الساحة السياسية من خلال دراسة الخطاب والسلوك السياسي للأحزاب والشخصيات التي تنشط في تلك الساحة.
أنتجت التجربة السياسية خلال الأعوام الماضية العديد من الأحزاب في لبنان. ويتميز هذا البلد بهشاشة الاستقرار، والتأثر بالتدخلات الخارجية. وتترك السمات الذاتية لشخصية السياسي اللبناني الذي هو نتاج ماضٍ متمثل بالطائفية التي حكمت البلد قبل الطائف آثارها على طبيعة هذه الأحزاب وخطابها السياسي. وقد أدى ذلك إلى استشراء ثقافة شعبوية تترك أثرها في كل مفاصل التعامل السياسي والاجتماعي في لبنان، بل لتتمدد إلى أغلب مواقع صناعة القرارت التنفيذية والتشريعية والقضائية. وعند سماع الخطابات السياسية للأحزاب والشخصيات السياسية اللبنانية، فإننا نلاحظ تشابهاً كبيراً في الخطاب وطرح المقاربات بين أغلب الأحزاب السياسية رغم اختلافها وصراعها على خطوط الاستقطابات المختلفة. كما إن أغلب الأحزاب تستنسخ الكثير من أساليب التعامل من بعضها البعض، وتقوم أغلب تلك الأحزاب تبعاً لمن يقودها بالتقاط قضية أو عدد من القضايا التي تثير الانقسام الحاد وتلقى رواجاً لدى الانسان العادي وتجعلها من أولوياتها التي تنادي بها دون أن تطرح بالضرورة حلولاً موضوعية وعملية لها، ومما يميز الأحزاب اللبنانية في شعبويتها، أنها لا تتبنى بالضرورة قضية واحدة مثيرة للانقسامات، بل تتبنى عدة قضايا في نفس الوقت، فالحزب ذو التوجهات الطائفية على سبيل المثال يمكن أن يتبنى كذلك توجهات مضادة لأحزاب اخرى، وأخرى ترتكز على صراع شخصي مع شخصية سياسية أخرى، وهكذا تعتبر الشعبوية حالة انتقالية، أي أنها لا تستمر كسلوك سياسي مستقر بسبب هشاشتها التنظيمية، فالحزب السياسي ذو الاتجاه الشعبوي ما أن يحقق الوصول إلى موقع صناعة القرار الحكومي والتأثير عليه، يتغير خطابه ويأخذ شكلاً آخر، يتعامل مع الواقع بطريقته الخاصة، كما أنه في نفس الوقت لديه القدرة على الانتقال إلى الحالة الشعبوية بمجرد فقدانه ذلك الموقع، أو أنه يستمر في ممارسة الخطابين في نفس الوقت، وحسبما تمليه الظروف، ويبدو أن تفشي الظاهرة الشعبوية في لبنان كبير إلى درجة أن السياسي يمكن أن يتحول إلى معارض أثناء ممارسته مهامه الرسمية، ورجل التشريع في البرلمان يستطيع أن يتحول إلى مقاتل يحمل السلاح دون غطاء رسمي، وأن يتحرك السياسي وفق الأعراف المناطقية ضد القوانين المرعية كما يستطيع تحريك تظاهرات صاخبة في الشوارع ضد مؤسسات وشخصيات وقرارات حكومية، بينما يجلس في مكتبه الحكومي يمارس وضعه الرسمي في المؤسسات الحكومية نفسها.
إقرأ أيضًا: هل إعادة إنتخاب من فشل يضمن مستقبل بعلبك الهرمل؟
إن أغلب الأحزاب والتيارات اللبنانية، الكبير منها والصغير، تتمحور في الأساس حول شخصيات سياسية، وتسيطر عليها قيادة فردية، وغالباً ما تقاد الأحزاب بشكل مباشر من قبل شخصية أو الموالين لها بشكل مركزي جداً، وتقوم هذه الشخصيات بتحديد طبيعة السلوك والخطاب السياسي الذي تتبناه تلك الأحزاب، وربما يفسر ذلك الطبيعة المتغيرة وغير الثابتة للخطاب والسلوك السياسي لأغلب الأحزاب والتيارات، ويبدو أن الهشاشة التنظيمية مضافاً إليها القيادة الفردية التي تقود تلك الأحزاب في كثير من الأحيان منحىً براغماتياً وميكافيلياً واضحاً. ومن أجل تحقيق مصالح فئوية أو طائفية أو شخصية أو غيرها، وتتعامل الأحزاب والشخصيات السياسية المختلفة بطريقة نسبية ومرنة جداً فيما بينها، ومع المؤسسات الرسمية ، حتى وإن أدى ذلك إلى إضعاف تلك المؤسسات وكسر القوانين المعمول بها. ويعكس هذا السلوك ضعف انسجام تلك الأحزاب مع مؤسسات الدولة الرسمية وهي صفة تميز الأحزاب الشعبوية بامتياز. يقوم السياسي الشعبوي في أغلب الأحيان في خطابه الموجه إلى الجمهور الذي يستهدفه بتحريك مشاعر الإحباط والقلق والخوف من الآخر والقلق من المستقبل لديه. كما يقوم بتهويل الأزمات المحلية والاقليمية وغيرها من قضايا من أجل استثارة مشاعر الجمهور عاطفياً على خطوط الانقسام المسببة للصراع السياسي، ويسعى السياسي الشعبوي في كثير من الأحيان إلى وضع القضايا التي تثير الجمهور، أو التي تخاطب مساحة حاجاته الأساسية في إطار شخصي جداً، عبر لغة الترهيب والتهديد والإزدراء والفشل والمؤامرات والتخوين ضد من يختلف معه، وفي نفس الوقت يستخدم تعابير تعبرعن الرقي والعلو والنجاح والإنجازات عندما يتحدث عن نفسه. وضمن الاستعداد لسباق الانتخابات بدأ هذا الخطاب يتصاعد شيئاً فشيئاً. فقد أعلن الامين العام لـ "حزب الله"، في إحدى الخطب الانتخابية، أنه بصدد محاربة الفساد وأنه يهدف إلى "إنقاذ لبنان وشعبه من الفساد الذي يعيشه البلد" وأنه "سيتخذ قرارات مهمة تغضب الذين يهيمنون على الحياة السياسية" وأنه "لن يقف مكتوف الايدي" إزاء القروض التي يمكن ان تلجاْ لها الحكومة إذا كان لها إنعكاسات سلبية على اللبنانيين، ويلاحظ أن السيد "نصرالله" وصف المرشحون المنافسون له بمرشحي السفارات واتهمهم بالتضامن مع القوى الارهابية ولا يقف الامر عند السيد فحسب بل ايضاً عند قيادات سياسية أخرى كرئيس الحكومة الشيخ سعد الدين الحريري عندما يصف الأخصام أيضاً بأنهم يريدون تغيير هوية بيروت أو وزير الخارجية جبران باسيل الذي يحمل صليب الدفاع عن حقوق المسيحيين وغيرهم من القيادات السياسية.
إن هذه التصريحات تعكس صورة قاتمة عن البلد، و كل تلك التصريحات والخطابات تحاول أن ترسم من مطلقها صورة القوي المنقذ لوضع ميؤوس منه. ويلاحظ أيضاً القلق الذي يثيره البعض منهم حول مؤامرات كونية تحاول النيل من حزبه أو تياره. ويظهر ذلك من خلال السياق العام للخطب والتصريحات التي يحاول كل منهم إبراز نفسه كقائد قوي لأتباعه. هناك أمثلة عن خطابات شعبوية لشخصيات قيادية لبنانية مؤثرة في الساحة السياسية. وهي كما يلاحظ تمتلئ بالكثير من إثارة الخوف والتهديد والمبالغة والإستقطاب في إبراز الجوانب السلبية للأوضاع. وتتعامل الأحزاب والتيارات اللبنانية وفق نظرة أحادية مع الأوضاع في البلد. وتتحرك هذه النظرة في أفق طموحات هذا الحزب أو ذلك التيار باتجاه السيطرة على مقاليد الأمور في البلد، ولا تلتفت الأحزاب والتيارات كثيراً إلى أهمية التعددية في بلد كلبنان يعيش تلك التعددية على كافة المستويات بطبيعته. فالتوافق عندما كان يتم لتشكيل الحكومات السابقة، إنما كان يحصل بسبب عدم امتلاك تلك الأحزاب القدرة والقوة الكافية كي تستأثر بالسلطة على حساب غيرها، وبسبب ضغوطات سياسية داخلية وخارجية لا قدرة لتلك الأحزاب والتيارات بمواجهتها، فالتوافق كان دائماً يتحقق بالاضطرار لا بالإرادة. وبشكل عام فإن التعددية لا تمثل جانباً أساسياً لدى الكثيرمن الأحزاب والتيارات اللبنانية، رغم إطلاق بعض تلك الأحزاب شعارات تنادي من خلالها بالتعددية والتداول السلمي للسلطة. ومع مرور الزمن على نشوء التجربة اللبنانية فإن التعددية التي يكفلها الدستور، تتراجع هي الأخرى أمام أجندات خارجية تتبناها بعض الأحزاب اللبنانية. وذلك في مؤشر واضح على تجذر الظاهرة الشعبوية في الساحة السياسية. يلاحظ أيضاً تضاؤل مساحة الصدق في خطاب الأحزاب السياسية، فإطلاق الوعود، وتضخيم الإنجازات أو المشاكل، واختلاق الصراعات، وتهويل المخاوف، والحديث عن المؤامرات، وغيرها من أمور غير مبنية على مستوى مقبول من المصداقية، تعتبر ممارسة شبه يومية في التعامل السياسي لبعض الاحزاب. والأمثلة على ذلك كثيرة. وتميل بعض الأحزاب إلى تضخيم إنجازاتها، أما على مستوى التهويل، فيلاحظ أن الجميع يتحدثون عن إنعدام الثقة ببعضهم البعض وانهم يتعرضون للدسائس والمؤامرات. وهكذا يلاحظ أن الأحزاب والتيارات اللبنانية هي أحزاب وتيارات شعبوية بطبيعتها، ولذلك أسباب كثيرة لا مجال لبحثها الآن.
والشعبوية السياسية في لبنان تعد أحد الأسباب الرئيسية التي لا تسمح للنظام السياسي في لبنان بالعمل بشكل سليم.