من حظّ المعارضة أنها تتلقّى عند كل استحقاق دستوري أو سياسي الهدايا من أهل السلطة والموالين لها على أطباق من ذهب، وهو أمر مثير للسخرية، فلم يتعلّم اهل السلطة من التجارب السابقة التي دفع فيها الموالون القريبون من سادة العهد اثماناً باهظة. وإن ظُلم منهم كثر، فقد استحق بعضُهم جزاء ما ارتكبوا من الأخطاء عن قصد أو غير قصد والأمثلة ليست بعيدة في التاريخ المعاصر فهي تعود الى ولايتين أو ثلاث قبل بدء العهد الحالي.
وعلى هذه الخلفيات، يتطلّع المراقبون الى مسلسل الأخطاء التي ارتُكبت حتى الآن في السياسة والإدارة والديبلوماسية والأمن والدستور والتي، وإن ارتقى بعضُها الى حدِّ الجريمة، فليس هناك مَن يحاسب. فالهيئاتُ التي شكّلت للرقابة المالية والمحاسبة شُلّت بقرارات سياسية.
وطالما أنّ الزمن زمنُ انتخابات فمَن كُلّفوا إدارة العملية الإنتخابية وفي مقدّمهم «هيئة الإشراف على الإنتخابات» يدركون حجمَ قدراتها طالما أنّ أحداً من أهل الربط والحلّ لم يسمح لها بـ»الصفّارة» التي يحتاجُها الحَكَم. واكتفوا بتسليمها ما يشبه «الكارت الأصفر» الذي في حوزة هذا الحَكَم، ولم ترقَ مهمّاتُها وسلطاتُها الى حدود امتلاكها «الكارت الأحمر».
ليس في كل ما سبق أيُّ جديد، فالقاصي والداني يعرف كثيراً من الحقائق التي توحي بهذه الصورة على دقتها، لكن ما يتوقف عنده المراقبون هو استمرار أهل السلطة على تعدّد وجوهها وحساباتها المتناقضة في تقديم الهدايا للمعارضة على أطباق من ذهب، فلا يخالفون إلّا «فوق السطوح» ولا يخافون حجمَ التجاوزات المرتكبة.
لا بل هناك مَن يتبنّاها ويجاهر بها علناً الى درجة الإعتقاد أنّ التاريخ بدأ معهم. فقبلهم لم يكن هناك ما يشبه الدولة والمؤسسات، ولم تكن هناك أنهر وسواق ولا محاكم ولا مجلس عدلياً، ولم تكن هناك مؤسسات عسكرية وأمنية أدارت البلد وحصّنته طوال فترة الشغور الرئاسي على مدى 29 شهراً. فشكّلت القياداتُ العسكرية والأمنية بإنجازاتها غطاءً للسلطة السياسية التي عجزت عن ملء الشغور بدلاً من أن تعمل برعايتها وتحت جناحيها.
وما عزّز هذه النظرية أنّ هذه القيادات العسكرية والأمنية هي التي استدرجت الدعمَ الدولي الذي لم ينله أحدٌ قبلاً. علماً أنّ ما أنجزته السلطة الى الآن لا يساوي ما دمّره أبطالها سابقاً، وأحداث تاريخ لبنان المعاصر التي لا تُنسى ولا تُفارق عقولَ وأذهان كثير من اللبنانيين.
ومن هذه الزاوية بالذات، يتطلّع المراقبون السياسيون والدستوريون الى الجدل القائم حول المادة 49 من قانون الموازنة العامة، والتي شكّلت علامةً فارقة ليس لسبب سوى أنها أُدرجت في الموازنة كـ»تهريبة» أو «تسريبة» بأصابع مجهولة الى الآن لدى كثيرين على رغم ما تنّضح به من مخالفات دستورية ليس أقلّها القول إنّ تعديلاً من هذا النوع يفرض البتّ به بوجود قانون أو مرسوم تنظيمي يقول بما قالت به.
فالموازنة لا تتّسع سوى للمواد التي تُنفّذ أو تُحتسب لسنة واحدة وليس على مدى أطول من 12 شهراً، وإنّ أيَّ تعديل على قانون قائم كقانون التملّك لا يعدَّل ولا يلغى سوى بقانون مماثل.
وما زاد في الطين بلة، أنّ التعديل المقترَح على قانون تملّك الأجانب الذي نصّ على أسس الحصول على حقّ الإقامة الموقتة أو الدائمة بالنسبة اليهم قد طُرح في مرحلة تواجه فيها البلاد مخاطر وجود أكثر من مليون نازح ولاجئ سوري وأكثر من 400 الف لاجئ فلسطيني، عدا عن 70 الفاً آخرين نزحوا من مخيمات سوريا، فضلاً عن العراقيين الذين شرّدتهم الحرب من بلادهم، بالإضافة الى ما تستضيفه الأراضي اللبنانية من أجانب من أصول أفريقية وآسيوية.
وعليه، لا يختلف اثنان عند تصنيف الأداء السياسي للمعارضة والموالاة في لبنان على أن يشهدا لتفوّق المعارضة في مقاربة القضايا والملفات الحيوية التي تعني اللبنانيين وتشكل مخاطر آنية ودائمة في آن. سواءٌ على مستوى الملفات الإقتصادية والإدارية والبيئية أو الصحية والتربوية وصولاً الى تلك التي تعني مستقبل البلاد وتحاكي التوازنات الديموغرافية الحساسة والهشة.
فجاء تفوّقُ المعارضين على الموالين منسجماً مع ما حقّقوه مِن انتصارات تُرجمت بخطوات دستورية وقانونية. وإن وُجد مَن يعتقد أنّ المعارضة اسهل من الموالاة، فلا تختلف الآراء عند اعتبار أنّ الموالاة العمياء هي مرض من الأمراض المزمنة للسلطة. فكيف والبلد يعيش اجواءَ الإنتخابات النيابية تأسيساً على قانون لم يُبقِ أخاً مع أخيه أو حليفاً مع حليفه في السباق الى ساحة النجمة.
اما وقد بلغ النقاش ما بلغه من حدة حول شكل المادة 49 ومضمونها وتوقيت طرحها فقد جاءت خطوة رئيس الجمهورية بطلبه من مجلس النواب إعادة النظر فيها لتنقل الحوار حولها الى مسارات أخرى إدارية وقانونية ودستورية. ولما لم يردّ رئيس الجمهورية قانون الموازنة بشرط تعديل أو إعادة النظر في المادة عينها فقد توسّعت السيناريوهات الممكنة ومن أبرزها ما تجهله أو تجاهلته الموالاة والمعارضة معاً.
فالموالاة التي آلمها نجاحُ المعارضة في إلقاء الضوء على هذه المادة ونتائجها السلبيّة المحتمَلة على اللبنانيين بلا استثناء برعت في ردودها «الشكليّة» لئلّا يُقال إنها «سخيفة» بأنّ النقاش يدور حول المادة 49 وليس المادة 50، عدا عن تجاهلها اعتراف رئيس الجمهورية بوجود علّةٍ ما وخطأ أيّاً كان حجمه في هذه المادة. فهم ماضون في الدفاع عمّا قالت به هذه المادة كتعبير يتناقض وموقف رئيس الجمهورية الذي يدافعون عنه وعن عهده بلا رادع ولو كان أخلاقياً أو سياسياً.
وعليه يقول أحد الخبراء الدستوريين: «ماذا لو اكتشف اللبنانيون أنّ هذه المادة 49 وبمعزل عن المخالفة - التي لا نقاش فيها - لمجرد إدراجها ضمن قانون الموازنة المعتمَدة لسنة واحدة تكرّس حقاً للأجنبي متوافر له منذ سنوات بشروط أقلّ أهمية بكثير ممّا قالت به.
فأيُّ أجنبي يمكنه، وفي أيّ وقت، الحصول على إقامة لسنة واحدة إن جمد مبلغ 100 مليون ليرة لبنانية في أحد المصارف وأبرَز عقد غيجار لمنزل في لبنان أو إفادة عقارية بتملّكه، ويمكنه الحصول على إقامة لثلاث سنوات إن جمّد بالإضافة الى المستندات العقارية عينها مبلغ 300 مليون ليرة في أيّ مصرف.
وإنّ أيّ خلل في هذه العملية رهنٌ بقدرة جهاز المديرية العامة للأمن العام على التثبّت والاستقصاء من جدّية وصحّة المستندات المعتمَدة التي تمنحه مثل هذا الحق».