منذ أواسط الخمسينات، بدأت اللغة السياسيّة العربيّة تستعين باللغة السياسيّة الروسيّة، أو بالأحرى السوفياتيّة. فخطاب «القوميّة العربيّة» بتنويعاته الكثيرة، البعثيّة والناصريّة، لم يكن كافياً لتبرير بعض أفعال أنظمة الاستبداد، كمدّ أذرع الدولة الأخطبوطيّة إلى سائر المجتمع، وتدمير التعليم، لا سيّما تعليم اللغات الأجنبيّة، وتأميم الصحافة والإعلام. كان لا بدّ من الاستعانة بالماركسيّة في صيغتها المُسَفْيَتَة للبرهنة على أنّ تلك الأفعال إنجازات، وأنّ البلوغ إلى المستقبل، تحت بيرقها، مضمون.
لقد تولّت اللغة السياسيّة السوفياتيّة تحديث الاستبداد المقيم في اللغة السياسيّة العربيّة منطوقةً باللسانين الناصريّ والبعثيّ. واليوم، تسدّد روسيا متأخّرةً هذا الدَين لعرب السلطة الأمنيّة. فأنظمة الطغيان العربيّة وقواه طوّرت على مدى عقود لغةً تقلب الهزائم انتصارات، وتتغلّب على المسافة الضخمة بين شعارات تقود إلى الحرب وبين إمكانات وقدرات معدومة. في هذا خرّجْنا، نحن العرب، أساتذةً عظاماً كيونس البحري وأحمد سعيد ومحمّد سعيد الصحّاف...
هؤلاء هم مَن استعار فلاديمير بوتين وديبلوماسيّوه وإعلاميّوه أرواحهم وحناجرهم فيما كانوا يعلّقون على الضربات الغربيّة الأخيرة قرب دمشق وحمص. ففضلاً عن إنكار الضربة الكيماويّة في دوما، ظهر الإس 300 الروسيّ على شكل خردة، ولم يُحسب أيّ حساب لطاقة الردع التي يُفترض أن يملكها الحضور العسكريّ الروسيّ (والإيرانيّ) في سوريّة. لقد جاء هذا مجتمعاً بمثابة فضيحة تفضح الفارق بين مزاعم موسكو المعبّرة عن طموحاتها الإمبراطوريّة وبين قدراتها الفعليّة. كان لا بدّ بالتالي من الاستعانة بتراكم هذه «المهارات» التي يملكها «الأصدقاء» العرب. راحت الأكاذيب تلد واحدتها الأخرى، وكلّ ابنة تفوق أمّها حجماً.
هذا لا يعني بحال أنّ الضربات الغربيّة الأخيرة معنيّة بقضيّة السوريّين وحرّيّاتهم. وقد نقول في غد الشيء نفسه عن اللغة السياسيّة الإيرانيّة، إذا صحّت التوقّعات الكثيرة حول مجابهة إسرائيليّة– إيرانيّة في سوريّة وربّما في لبنان.
مع ذلك، يبقى هذا التلاقح، أو التثاقُف، مثيراً للاهتمام والمتابعة. فهزيمة الكلام ليست عديمة الأثر على أوضاع المتكلّم. ذاك أنّ الكلام يصف، في ما يصف، سلاح صاحبه وهيبته. وأهمّ من ذلك أنّ الوصف الكثير غالباً ما يفيض عن الموصوف القليل الذي تعصف به الأزمات الاقتصاديّة والأخلاقيّة من كلّ نوع. وما دام أنّ بشّار الأسد يحلّق بجناحين روسيّ وإيرانيّ، فإنّ انكشاف الجناحين بوصفهما مَهيضين، بل وهميّين لا بدّ أن ينعكس على التحليق نفسه.
شيء قليل من الأمل؟ ربّما. لكنّ الأكلاف ستبقى بالتأكيد باهظة جدّاً.