تتغنّى السلطة بلبنان كواحة ديموقراطية في هذا الشرق، لكنّها بالممارسة والأداء تنسف هذه المقولة من أساسها، وتقدّم هذا البلد كصحراء قاحلة وأكثر سوءاً من أيّ نظام ديكتاتوري في العالم، الديموقراطية والعدالة والنزاهة والشفافية جسم غريب فيه. وبلا حياء أو خجل تُمعن السلطة في هذا المنحى، ارتكاباتُها متواصلة ولم يعد في الإمكان إحصاؤها.

وسط ذلك يبدو المواطن اللبناني مسجوناً في قفصٍ نصَبته ماكينات السلطة، التي يُعبّر أداؤها وتجاوزاتها وارتكاباتها المفضوحة أمام المواطنين، عن حجمِ استماتة النافذين وأزلامِهم، لرسم اللوحة السياسية والنيابية التي تريدها وتخدم مصالحَها، بالضغط والتزوير ومصادرة التمثيل خلافاً للمزاج الشعبي. وحتى ولو تطلّبَ ذلك الدخولَ في عراك واشتباكات، على نحوِ ما يجري من حرب محتدمة بين الماكينات في أكثر من دائرة، وكذلك الأحداث المفتعلة من بعض مرشّحي السلطة فقط لاستدرار العطفِ وجذبِ الأصوات، وهي ظاهرة تزايدَت في الساعات الأخيرة.

هيئة الإشراف

يتزامن ذلك، مع رياح انتخابية تعصفُ بهيئة الإشراف على الانتخابات، وقبل أسبوعين من فتحِ صناديق الاقتراع، وتجلّى باستقالة أحدِ أعضائها، وهو حدثٌ أحيطَ بعلامات استفهام سواء حول أسبابه الموجبة، أو حول توقيته، خصوصاً وأنّه يأتي في غمرةِ الصخبِ والضجيج الانتخابي والممارسات التحريضية، وتنامِي الحديثِ عن استخدام المؤسسات الرسمية لغايات ومصالحَ انتخابية واستباحة أركان السلطة لمعايير النزاهة والشفافية.

فقد تلقّت «هيئة الإشراف» صفعةً مِن أهل بيتِها عبر استقالة أحدِ أعضائها رئيسةِ اتحاد المقعدين سيلفانا اللقيس، وهي الممثّلة الوحيدة للمجتمع المدني في الهيئة، لرفضِها أن تكون شاهدةَ زورٍ على عجزِ الهيئة عن أداء مهمّاتها، واحتجاجاً على ممارسات عدَّدتها ومِن بينِها تجريدُ الهيئة من إمكانية معالجة مخالفات جسيمة قامت بها لوائح تُمثّل قوى نافذةً في الدولة، وانحصار صلاحياتها في مراقبة اللوائح الصغيرة.

حرب

وتعليقاً على استقالة اللقيس، قال النائب بطرس حرب لـ«الجمهورية»: «وشَهد شاهدٌ مِن أهله. الموقف الصادر عن أحد أعضاء الهيئة والذي كشَف أوّلاً مخطّط السلطة لتعطيل الهيئة من خلال عدمِ تأمين المستلزمات المادية والقانونية اللازمة لها، وعدمِ السماح لها بممارسة صلاحياتها، ومِن خلال ارتكابِ مخالفات عدة تعجَز هيئة الإشراف عن كشفها وتسجيلِها، كلُّ ذلك يؤكّد ما سبقَ أن قلناه، ويبدو أنّ القرار لدى القوى النافذة الحاكمة هو تعطيل الانتخابات ونزاهتها، وتسخير السلطة وأجهزتها لمصلحة مرشّحيها، وذلك بالتغطية على كلّ المخالفات التي تحصل لكي تأتيَ الانتخابات لمصلحة أهلِ السلطة، ما يَدفعنا إلى طرح السؤال الكبير: إذا كان المشرفون على الانتخابات والمنوط بهم السهر على سلامتها يشكون، فكم بالحريّ بالنسبة للمرشحين والمواطنين الذين يقدّمون الشكوى تلو الشكوى من دون جواب أو ردّةِ فِعل أو تدبير يحقّق في الشكاوى أوّلاً ويَمنع تكرارَها ثانياً».

نظارات وأقلام

وكان حرب قد قال في بيان إنّه «ثبتَ في الآونة الأخيرة أنّ أحزاباً وتيارات سياسية ومرشّحين عمدوا إلى شراء نظارات وأقلام من صنعِ الصين مجهّزة بآلات تصوير تسمح للناخب بتصوير ورقةِ الاقتراع قبل وضعِها في الصندوق، ما يشكّل دليلاً على التزامه مع مَن ضَغط عليه أو مارَس الرشوةَ معه واشترى صوته، علماً أنّ ثمنَ القلم هو 35 دولاراً، أمّا النظارات فـ 28 دولاراً.

وأكّد أنّ «هذا الأسلوب المهين يَحرم الناخب حقّه في التعبير بحرّية عن رأيه، ويعطّل عملية الانتخاب الحرّة»، وطالبَ وزارة الداخلية «بمنعِ واضِعي هذه النظارات وحامِلي هذه الأقلام من إدخالِها إلى مكان الاقتراع، للحؤول دون تسهيل عملية رشوة المغتربين أو ممارسة الضغط عليهم يوم الانتخاب»، وقال إنّ «السماح باستخدامها داخلَ غرفة الاقتراع، أو السكوت عنها، يساهم في تزوير نتائج الانتخابات وتعطيل العملية الانتخابية التي يُفترض أن تعبّر عن رأي الناس الحر في اختيار ممثّليهم».

ميقاتي

وكان الرئيس نجيب ميقاتي قد اعتبَر أنّ استقالة اللقيس «دليل إضافي على أنّ تجاوزات السلطة الانتخابية باتت أكبرَ مِن قدرة أصحاب الضمير على تحمّلِها، ما يتطلّب من فخامة الرئيس ميشال عون موقفاً سريعاً لتصويب الأمور». وحذّرَ «من الضغوط والتدخّلات الأمنية والإدارية والقضائية التي تجري من قبَل السلطة على الناخبين»، وقال: «ما نراه اليوم من ضغوط من قبَل السلطة، مرفوض تماماً، ولم نرَ مثيلاً له أيام الانتداب، ولا أيام ما بعد الاستقلال، ولا في عهد الوصاية، ولكن يحزّ بقلبنا أن نراه في عهد الإصلاح» وناشَد الرئيس عون «بأن يتابعَ ما يحصل من تدخّلات أمنية وقضائية وإدارية». وطالبَ بأن «يكون عهد الإصلاح اسماً على مسمّى، وسيكون لنا موقفٌ في حالِ بقيَ الأمر على ما هو عليه».

ريفي

وعلى جبهة المعارك الانتخابية، اعتبَرت أوساط اللواء أشرف ريفي أنّ ما قام به تيار «المستقبل» في الأيام الماضية هو هروب إلى الأمام، وقالت لـ«الجمهورية»: «هو الهروب نفسُه الذي حدا بالرئيس الحريري الى رفعِ السقف بوجه «حزب الله» والنظام السوري في مهرجاناته الانتخابية، فيما يسيطر الحزب على قرار حكومته، ويمتلك ورقة الرئاسة.

وقالت الأوساط: «في الواقع، إنّ الحريري يترأس «حكومة ميقاتية»، والأخطر أنّه يحاول إضفاءَ شرعيةِ الرئيس الشهيد رفيق الحريري عليها، ويذكر الجميع أنّنا وبعد استقالة الثلثِ المعطل من الرابية، وقبولِ الرئيس ميقاتي تشكيلَ الحكومة، نصحنا بعدم السير بهذا الاتجاه، وواجَهنا تلك الحكومة، فيما غادرَ الرئيس الحريري لبنان، لقد كنّا نحن في المواجهة، ورَفضنا وصاية «حزب الله».

وأضافت: «اليوم يأتي مَن تَحالفَ مع حليف «حزب الله»، لينشرَ الأكاذيب عنّا، معتقداً أنّه قادر أن يُنسيَ اللبنانيين أنه انتخَب للرئاسة حليفاً للحزب، وأنه شكّلَ حكومة أغلبيتُها للحزب وأنه أعطى الحزب قانون انتخاب، وأنه قبِل بتولّي محامي الدفاع عن المتهمين في جريمة اغتيال الرئيس الحريري وزارةَ العدل، وأنه أجلسَه إلى جانبه في ذكرى 14 شباط. فمَن اصطفَّ إلى جانب التيار العوني المتفاهم مع «حزب الله» على حساب البلد، ليس مؤهلاً ليُنصّبَ نفسَه مدافعاً عن البلد في وجه الدويلة».

وأكّدت الأوساط أنّ «اللقاء مع اللبنانيين في 6 أيار كي نواجه اللوائح المدعومة من الحزب والمرعوبة منه، حيث لم يعد يفصل بين الفئتين سوى شعرة معاوية، ولن يكون في قاموسنا شيء اسمُه الاستتباع أو الخوف ولا الترهيب او الترغيب (تفاصيل ص 8)

الراعي: تحذير متجدّد

وواصَل البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي توجيه تحذيراته وانتقاده للوضع القائم، وشدّد خلال زيارته الراعوية إلى قطر التي توَّجها بوضع حجرِ الأساس لكنيسة مار شربل ومجمعِها في الدوحة، على أنّ «لبنان يحتاج إلى رجالات دولة غيرِ عاديين يَعملون من أجل إعادةِ بناءِ الوحدة الوطنية، وإلى سياسيين متجرّدين يحاربون الفساد المتفشّي في الوزارات والإدارات العامة ومؤسسات الدولة، ويضَعون الخطة اللازمة للنهوض الاقتصادي والمالي، ولإجراء الإصلاحات المطلوبة من مؤتمرَي روما وباريس الأخيرَين. ويحتاج لبنان إلى مسؤولين سياسيين يحترمون الدستور والقانون، ويلتزمون القرارات القضائية ويَعملون على تنفيذها». ودعا اللبنانيين «إلى الإدلاء بصوتهم المسؤول من أجل اختيار مِثل هؤلاء المسؤولين».

فوتيل

من جهةٍ ثانية، ظلّت زيارة قائد القيادة الوسطى في الجيش الأميركي الجنرال جوزف فوتيل إلى بيروت محلَّ اهتمام وسط تساؤلاتٍ سياسية عن سرّ الحضور الاميركي المكثّف في لبنان في الآونة الأخيرة، بالتزامن مع تطوّرات المنطقة، وخصوصاً في سوريا.

وفي هذه الزيارة التي تأتي على مسافة أيام من الضربة العسكرية لسوريا، التقى فوتيل رئيسَي الجمهورية والحكومة وقائدَ الجيش العماد جوزف عون، وأكّد فيها دعم بلادِه «للجيش والقوى المسلحة اللبنانية، وضرورةَ تعزيز التعاون القائم بين الطرفين».

وعلمت «الجمهورية» أنّ فوتيل عرَض لتطوّرات الأزمة السورية ونتائج مبادرات بلاده الأخيرة وحركة المشاورات والاتصالات التي تجريها مع حلفائها والأطراف الأخرى بما فيها الجانب الروسي وحلفائه. وأكّد أنّ الضربة العسكرية انتهت عند حدودها العسكرية والسياسية في شكلها ومضمونها وتوقيتها، وهي ضربة «عِقابية» للنظام الذي استَخدم السلاح الكيماوي رغم التحذيرات السابقة والتعهّدات التي حالت دون ضرباتٍ مماثلة قبل سنوات، والضربة شكّلت رسالة واضحة لمن يريد أن يفهم، وقد أدّت غرضَها.

وأكّد فوتيل أنّ الدور الأميركي في سوريا لم ينتهِ بعد وأنه رهنٌ بالقضاء نهائياً على «داعش» والمنظّمات الإرهابية وتدمير قدراتها النهائية، وشدّد على أنّ القرار الأميركي بدعمِ الجيش والمؤسسات العسكرية هو قرار نهائي لا رجوع عنه وأنّ ما يجري في لبنان يشجّع بلاده على المضيّ في مساعداتها للجيش والقوى العسكرية، فهو استثمار لصالح لبنان والمنطقة في لبنان. وأكّد أنّ بلاده مسرورة بنتائج مؤتمر «روما 2» وهي ملتزمة بكلّ ما وعَدت به، والدعم لم يكن ينتظر المؤتمرَ، فهو قائم قبله وفيه وبعده، مبدياً سرورَه بقدرات الجيش على استخدام الأسلحة التي قدِّمت له كما يجب وبكلّ إتقان وفعالية