في منابت وأصول الثقافة الغربية نشأ عدد من المصطلحات ومنها مصطلح «الآخر» أي ذلك الغائب في مكونات مصطلحي (الثقافة)
و (الحضارة) في فلسفة القرن التاسع عشر، والذي كان يدخل في ذلك الزمن تحت عنوان الأهلي مكرساً منطق ثقافة الاستعمار والأرض الخالية في آسيا وأفريقيا.
هذا المعيار، وبعد مرور قرنين من الزمان، ما زال يطبع السياسة الغربية التي تنظر من منطلق قوتها إلى مداها فقط، وما سوى ذلك هم الآخرون. وهكذا أصبح الفلسطينيون هم الآخر الغائب أمام إسرائيل.وإنطلاقاً من هذا المعيار سعت اسرائيل وما زالت تسعى الى تكريس واقع إبقاء المنطقة تحت قانون مثلث الاضلاع (تخلف ، تجزئة ، توتر دائم )وقد ساعد على ذلك ثقافة الاستعمار التي اسهمت بشكل فعال بنشوء مصطلح (الأقليات)تأسيساً لمفهوم الآخر هذا، وذلك كلّه غريب عن إطار حضارتنا العربية. فمفهوم (الأقليات) لم يكن له معنى في عمق ثقافتنا، والأقلية الإسلامية، في أي مجتمع كانت، هي أكثرية لأنها حملت معها رسالة سماوية.
أوليست المنطقة مهبط الرسائل السماوية؟
والأمر نفسه ينطبق على الأقلية العددية من غير المسلمين الذين حققوا بحضورهم أيضاً ما أغنى بيروت و بغداد ودمشق والقاهرة وغيرها من العواصم العربية.
هذه المقدمة نطرحها كأساس لرؤية الحاضر والمستقبل في مسارنا الوطني سواء في لبنان أو في العالم العربي. ذلك المسار الذي بُنِيَ على مفهوم مستحدث هو (الأقلية) في البنى الوطنية. ففي المشاريع التي تحضر لمنطقة الشرق الأوسط التي جرت مناقشتها في العديد من المراكز البحثية في أواخر السبعينات من القرن الماضي، حيث توصلت تلك المراكز البحثية لتكريس إستراتيجية ما سمي حقوق الأقليات المذهبية والعنصرية. وعلى ضوء هذه الإستراتيجية تكوّن ما سُمّي الجغرافيا السياسية من المنظور الغربي نحو المنطقة، وليس من منظور المنطقة نحو مستقبلها.
وهكذا بدأت الدراسات الاستشراقية، تحت عنوان النزعة الأقلوية الشيعية أو السنية أو سواها من المكونات، ترفع راياتها تحت عنوان حقوق الأقليات وقد صدرت بعض الدراسات ، تحت عنوان (صحوة المهمشين) متوقعة مستقبلاً من الصراع المذهبي في عالمنا العربي وخصوصاً في منطقة الخليج. فوفقاً للتوقعات، ينتقل مركز الثقل في العالم العربي من حوض البحر المتوسط إلى المناطق التي فيها خليط من السنّة والشيعة. وقد تنبأت بأنَّ الخضات الناشئة عن صحوة الشيعة ستتفاعل في خلفية العالم الإسلامي مما يشكِّل مشهداً لمجمل العلاقات الدولية.
المشهد اليوم في واقعنا العربي برمته يمنح هذا الاستشراف المستقبلي صدق توقعه في الاتجاهين السني والشيعي، وذلك استدراج تمليه سياسة دولية كتعديل لتقسيمات سايكس- بيكو تغيب معها الإرادة الوطنية الجامعة. إنَّ ما نشهده اليوم في العراق وسوريا ولبنان هو خيانة ثقافية وفكرية لتاريخ الحضارة العربية وتاريخ بغداد ودمشق وبيروت، فضلاً عن منطلقات ما أوجزنا من بنائنا الثقافي والاجتماعي أجيالاً إثر أجيال كما أنها خيانة لوحدة العالم العربي حين يدير الظهر عن المآسي التي تعصف بأكثر من بلد فيه. فالطوائف الإسلامية والمسيحية يفترض أن تكون هي القنوات الموصلة إلى وحدة الأصول لا إلى تمزقها. أما تداول العهود وتنازع السلطة فيجب أن يبقى خارج نهر الحضارة في إنتاجه الثقافي.
إقرأ ايضًا: إختلاف دول الغرب مع روسيا يعرقل الحل السوري
لقد كان الإيقاع الثقافي والحضاري واحداً يجتاز الحدود بين الدول بغير استئذان من سلطة، وذلك مسار ألقى على الجميع مسؤولية الإمساك بوحدة التراث.
ذلك التراث الذي نقل فيه علماء الفقه والفلسفة واللاهوت من المسلمين والمسيحيين بعضهم عن بعض لتستقيم الثوابت الجامعة في كل سعي. ويبقى السبق لكل من سارع في الدفاع عنها بغير مِنَّةٍ ولا استكبار أو استئثار.
ذلك هو معنى الوحدة الثقافية والتراثية التي لا تهمّ المسلمين أو المسيحيين وحدهم بل كل من انطبع بثقافة البيئة وجغرافيا التفاعل الثقافي التي إلتأم فيها عطاء الإنسان مسلماً أم مسيحياً.
لأنهم جميعا نتاج ثمرة الحضارة ورسالتها.
ما جرى في لبنان و العراق وما يجري اليوم في سورية واليمن والبحرين ومصر وتونس وليبيا ليس سوى تعرية سياسية، وافتراء على التاريخ والتراث وعلى كامل حضورنا العربي لمصلحة أجندات توسعية .
وحين تسوّر كل طائفة حدودها النفسية في فضائنا السياسي تصبح رهينة القيود المذهبية من جهة، والإلغائية للآخرين وتعتبر نفسها متميزة و في تميزها إفتراء على التاريخ ، وقد رسمت حدودها في تقاسم صحن الدولة بغير سند دستوري.
إن هذا الأمر ليس إلا تبديد للذاكرة والروح الجماعية والوطنية لمصلحة الأجندات الخارجية التي تدعونا إلى أن نعيش جميعاً في حال من التنافر والتنابذ .
فالمشهد السياسي اليوم وكأنما قد فاتته اللحظة الحاسمة في بناء وطن جامع، بدأ يستسلم لمسار يفتّت نسق وحدتنا الثقافية والتربوية والاجتماعية الغنية بخصائص العمل الجامع العفوي في بيئة مليئة بذكريات تاريخ وحدة المعايير والعادات والتقاليد في بناء وأداء المواطن.
تلك مسائل تلزمنا في واقعنا اللبناني أن نُدرك مسؤولياتنا في إطار وطني هو التعبير الأوفى في مرتكزات الصيغة اللبنانية، التي لا بد أن تنمو على سطح إتفاق الطائف وليس تحت سقفه فحسب، إذ الفضاء الرحب يلهم دائماً بوحدة المنطلقات وتطوّرها خارج قيود الاصطفافات الطائفية والمذهبية والاتفاقات وسدود المكونات،والعمل على تطبيق الدستور. فالإخلاص الوطني هو الوقوف على باب الخروج من الأزمات لا الدخول فيها. وذلك يتطلب معايير في تناول المشكلات. معايير إدراكٍ لمصاعبها الحقيقية باعتبارها مصاعب تواجه الجميع في مجال الاطار الوطني، وليس المطلوب في هذه المرحلة إعادة خلق إشكاليات تعيد إنتاج أزمات جديدة سبق أن دفعنا فيها جميعاً ثمناً باهظاً ،بقدر ما أن المطلوب اليوم من الجميع العمل على بلورة الحلول وإستيعاب المشكلات سواء في بنية الدولة على المستويات كافة إدارية وسياسية وإجتماعية وإقتصادية، كذلك يجب أن لايغيب البعد الإقليمي بكل أبعاده السياسية والثقافية والإجتماعية والتاريخية الممتد إلى سورية وما وراءها.
أما إذا بقي واقع الأمر كما هو سائد اليوم من إستنفار للعصب الطائفي والمذهبي والخطاب السياسي الممجوج والقائم على المطالبة بحقوق هذه الطائفة ام تلك ما هو الا محاولة من أمراء الطوائف والمذاهب لابقاء مفهوم القطيع سائداً.
من هنا يصبح التشرذم شاملاً على صعيد السياسة كما على صعيد المجتمع، وما نشهده من الجدل القائم في خضمّ التحضير للانتخابات النيابية تقذف بمستقبلنا الوطني من تسامي اتفاق الطائف إلى قانون طائفي مرتبك، سيلاحظ فيه غياب الكفاءة السياسية والأفكار البنّاءة في مستقبل وطني آمن. ويعني ذلك بما يعني من خطر حقيقي ليس على الصيغة فحسب بل على الوطن والانصهار الوطني .
وهنا أقتبس ختاماً بكلمة للمفكّر بيلو في كتابه (الفرد والمجتمع).
" إنَّ الإخلاص الأقدر على تحصيل الإجماع وضمّ العقول والإرادات تحت لواء واحد، هو الذي يبنى على مناهج عقلية وأسس موضوعية تقوم أساساً على تحقيق تفاهم عملي.
ولا يُقصد بهذا التفاهم نوع من الإجماع المجرد بل هو اتفاق حقيقي نحو التعاون يهدف إلى جمع الناس على مثل أعلى يكون واحداً للجميع، لا بمعنى أنه هو بعينه لكل فرد بل بمعنى أنه يدعوهم إلى عمل مشترك".