جاء المؤتمر الاقتصادي للتنمية من خلال الإصلاحات والقطاع الخاص، المعروف بـ"سيدر" CEDRE والذي انعقد أواخر الأسبوع قبل الماضي، ليؤكّد على التزام المجتمع الدولي بمساعدة لبنان بدعم الإقتصاد اللبناني الذي يحتاجه للتعويض عن النمو الفائت والشبه معدوم الذي امتد على مدى 7 سنوات بسبب تأثير الحرب السورية. إن الوقع على الاقتصاد اللبناني الذي يبلغ حجمه 53 مليار دولار حالياً هو حوالى 30 مليار دولار حتى الآن، ويشكّل ذلك تحدياً كبيراً لأي بلد في العالم. يقدّم دعم الدول المشاركة الذي حصل عليه لبنان الثقة التي نحن في أمسّ الحاجة اليها ومن شأنه أن يعطي نتائج مهمّة إذا تم تنفيذه بشكل صحيح. ومن المعروف أن الاستثمار السليم في البنية التحتية يعزز النمو وبإمكانه، في حالة لبنان، أن يرفعه إلى حوالى 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي في سياق الوضع القائم حاليا. و يمكن لهذه النسبة ان تصل إلى 6٪ سنوياً بوجود إطار مناسب لصنع السياسات العامة وغياب العوامل الخارجية التي تؤثر سلبا عليه.
من المهم إشراك القطاع الخاص من خلال الشركة مع القطاع العام، لسد هذه الفجوة في البنية التحتية من خلال جذب رؤوس الأموال نحو المشاريع المربحة. غير أن المشاريع الخاصة بالبنية التحتية التي تعتبر من المشاريع غير المربحة، بطبيعة الحال غير مؤهلة للشركة مع القطاع الخاص (وهي تمثّل 11 مليار دولار من أصل المشاريع المقترحة والتي تبلغ قيمتها 17 مليار دولار)، سيتم تمويلها من خلال قروض ميسرة. ويعني هذا أنه حتى لو كانت تكلفة خدمة الدين منخفضة، سيظلّ ذلك بمثابة دين يضاف إلى ديون بلد جاء في المرتبة الثالثة على قائمة البلدان الأكثر مديونية في العالم، مع بلوغ نسبة الدين من الناتج المحلي الإجمالي 151%. تبلغ تكلفة خدمة الدين حوالى 10% من الناتج المحلي الإجمالي و50٪ من الإيرادات الحكومية و 36٪ من إجمالي النفقات الحكومية؛ وهذه المعدلات هي من بين الأعلى في العالم. وبالتالي، لا يبدو أن زيادة ديون الدولة هو الحل الأنسب. لذلك، فلنتعرّف أكثر الى الشركة بين القطاعين العام والخاص ولنحدد النموذج الذي يناسب لبنان والذي يمكّنه من استخدام مؤتمر "سيدر" بما يصبّ في مصلحته.
لنبدأ أولا بتعريف ما لا تعنيه الشركة بين القطاعين العام والخاص. فهي لا تعني الخصخصة التي هي عملية تجريدية كاملة لملكية الأصول العامة وتحويلها إلى القطاع الخاص. كما انها ليست بمثابة عقد توريد عام حيث تعيّن الحكومة شركة خاصة لتقوم، على سبيل المثال، ببناء طريق أو محطة لتوليد الطاقة أو بتقديم خدمة ما. وعلى الرغم من أن هذا المصطلح يُستخدم عالميًا بمعناه الواسع والذي قد يشمل سلسلة من العلاقات بين القطاعين العام والخاص، غير أن الشركة الحقيقية هي التي تحدد عاملين رئيسيين ضروريين لنجاح مشاريع البنية التحتية، خاصة المشاريع الجديدة، وهما: التمويل والمخاطر. والمقصود من التمويل هو تحديد الجزء الذي سيستثمره القطاع الخاص والجزء الذي ستستثمره الحكومة. أما توزيع المخاطر، فيعني تحديد المسؤول عن تصميم المشروع وتنفيذه وتشغيله وصيانته.
يتألف عادة مشروع الشركة بين القطاعين العام والخاص من الخطوات التالية: 1- تحديد المشروع وتصميمه 2- وضع هيكلية للتمويل لكلفة تنفيذ المشروع 3- بناء المشروع 4- تشغيل المشروع وصيانته.
تسعى الحكومات إلى الاستفادة من هيكلية الشركة بين القطاعين العام والخاص من خلال جذب رأس المال الذي لا تملكه ولتنفيذ المشروع بتكلفة أقل، لأنه اّتضح أن القطاع الخاص أكثر فعالية في ما يتعلق بضبط التكاليف وبتنفيذ عمليات التشغيل والصيانة.
يعتبر القطاع الخاص أن مشاريع البنية التحتية الخاصة بالشركة بين القطاعين العام والخاص جذابة لأنها تقدّم عائدات نقدية ثابتة وقوية ذات تقلّب منخفض، كما أنها تشكّل تحوّطاً طبيعياً ضد التضخّم، بالإضافة إلى أن ارتباطها بتقلبات الأصول المالية الأخرى ضعيف. فضلا عن التمويل والمخاطر، هناك عامل ثالث مهم بالنسبة للبلدان النامية في ما يتعلق بمشاريع الشركة بين القطاعين العام والخاص، وهو الضمانات التي قد تقدمها المنظمات المتعددة الأطراف مثل البنك الدولي للشريك الخاص التي من شأنها في حال لم توفِ الحكومة بالتزاماتها النقدية، أن تحدّ من مخاطر الاستثمار بالنسبة للقطاع الخاص، وبالتالي تقلّص معدّل العائد المطلوب.
يقوم قانون الشركة بين القطاعين العام والخاص الذي أقرً العام الماضي بتنظيم هذه العملية بوضوح وبمراقبتها. الهدف هنا هو تمويل المشاريع بنسبة 100% من خلال الشريك الخاص الذي سيكون مسؤولاً عن التمويل وعن البناء والتشغيل والصيانة. أما الحكومة، فستكون مسؤولة عن تحصيل رسوم الخدمات المقدّمة ونقل التدفّقات النقدية المتفق عليها إلى الشريك الخاص مقابل استثماراته وجهوده.
كما ذكرنا، ان بعض المشاريع مثل تلك المتعلقة بمياه الصرف الصحي والطرقات ليست، بطبيعة الحال، مربحة للحكومة. لذلك، وخاصة في ظل غياب أي فائض في الميزانية وبوجود ارتفاع تكاليف الاقتراض، قد يبدو التمويل الميسّر فكرة جيدة؛ إلا أنه ليس كذلك على الإطلاق. فالتمويل الميسّر يعني المزيد من الديون بالنسبة للحكومة وهناك طريقة أفضل لتحقيق هذه المشاريع من دون أن تضطر الحكومة إلى الاقتراض.
يكمن الحل في البدء بمشاريع الشركة بين القطاعين العام والخاص والتي يمكنها أن تؤثّر مباشرة وبطريقة إيجابية على العجز المالي. والمعني هنا قطاع الكهرباء، طبعاً. فالعجز الناجم عن هذا القطاع مسؤول عن 40% من الدين العام وعجز سنوي بقيمة 3% من الناتج المحلي الإجمالي (أي حوالى 1,5 مليار دولار، بحسب أسعار الفيول)، ناهيك عن التكاليف العالية المترتبة على الشركات والأسر التي تنفق حوالى 2,5 مليار دولار على المولدات الخاصة في السوق البديلة للكهرباء. واذا قمنا بعملية حسابية بسيطة، نرى أنه في حال أمّنت الحكومة الكهرباء بشكل فعال، الأمر الذي يعتبر إصلاحا أساسيا ومهما بحد ذاته، يمكنها على الأقل القضاء على العجز الناجم عن تحويلات الخزينة إلى مؤسسة كهرباء لبنان، كما يمكنها أن تحصل ربحاً بحوالى مليار دولار، من دون إضافة أي تكلفة على الأسر. أما المشاريع الأخرى، فيمكنها أن تتمحور حول توسيع نطاق الإيرادات التي تقوم الحكومة بتحصيلها، مثل توسيع المطار وتحسين قدرة المرافئ، الأمر الذي سيكون مربحًا لكل من القطاعين العام والخاص.
ان تحويل العجز إلى فائض أعلى سيفسح المجال إلى إمكان انفاق جزء من الميزانية على مشاريع غير مربحة للحكومة ولكن ضرورية للمجتمع والاقتصاد، مثل مياه الصرف الصحي والطرقات. ان القدرة الاستيعابية القصوى في البنية التحتية لاقتصاد مثل الاقتصاد اللبناني هي بحد أقصى 2% من الناتج المحلي الإجمالي سنويا، أي مليار دولار. تعكس هذه القدرة الاستيعابية حجم الاقتصاد وقدرة المؤسسات الحكومية على تحويل الاستثمارات في مجال البنية التحتية نحو النمو المستدام. إن التنفيذ التدريجي للاستثمارات المقترحة في مؤتمر "سيدر"، ممكن أن يبدأ بالتركيز على المشاريع التي تدر ربحا على أن يستثمر بالمشاريع غير المربحة لاحقاً من دون أن تتكبّد الحكومة أي ديون إضافية. يمكن لمؤتمر "سيدر" أن يستخدم الدعم الدولي الذي تم الحصول عليه بطريقتين إيجابيتين. الأولى بتوجيه التمويل الميسر نحو مشاريع الشركة بين القطاعين العام والخاص وليس نحو مجموع ديون الدولة بحيث سيسعى أي شريك خاص في مشروع شراكة بين القطاعين العام والخاص إلى تمويل المشروع من خلال الجمع بين الرأس المال الخاص والدين. وسيتم اقتراض حصة الدين من بنك تجاري ويحدَّد مستوى سعر الفائدة استناداً الى درجة المخاطر التابعة للشريك الخاص. وإذا أُعطي الشريك الخاص فرصة الوصول إلى تمويل ميسر كالمتوفّر في "سيدر"، ستتحسّن عائداته وبالتالي، ستستفيد الحكومة بشكل غير مباشر من شروط أفضل في اطار الشركة، وذلك من خلال توجيه نفاذها إلى التمويل الميسر نحو مشاريع مجدية كمحطات توليد الكهرباء والمطارات والموانئ. أما الناحية الإيجابية الثانية للدعم المقدّم، هي توافر الضمانات التي يمكن للجهات المانحة والمنظّمات المتعددة الأطراف تقديمها للمستثمرين، الأمر الذي سيقلل من قيمة علاوة المخاطر التي يطلبها المستثمرون عند الاستثمار في البلدان النامية ذات الجدارة الائتمانية المنخفضة مثل لبنان. بالإضافة إلى ذلك، إن توافر الأموال في النظام المالي اللبناني يمكًن الهيكل التمويلي لمشاريع الشركة أن يشمل مساهمات استثمارية من المودعين اللبنانيين الصغار.
ان مؤتمر "سيدر" خطوة في الاتجاه الصحيح، غير أن نجاحه الحقيقي يكمن في تحقيق المشاريع اللازمة من دون أن تتحمّل الحكومة أي ديون إضافية وذلك من خلال ابتكار هيكلية مالية مناسبة لهذه المشاريع وتنفيذها بطريقة ملائمة، الأمر الذي من شأنه أن يزيد العائدات لكل من المستثمرين والحكومة والاقتصاد والمجتمع. ان الطريقة المثلى لتحقيق ذلك هي من خلال البدء ببناء محطات توليد طاقة كهربائية (وليس استئجار بواخر لإنتاج الكهرباء) وذلك عبر تحويل التمويل الميسر المقدّم من مؤتمر "سيدر" إلى القطاع الخاص، الاستفادة من الودائع المحلية، وتحويل العجز إلى فائض لاستخدامه في مشاريع أساسية أخرى، بطريقة تدريجية تضمن الفعالية الاقتصادية والمالية والتشغيلية.