حصلت الضربة وأعلن الأمريكيون أن المهمة أنجزت بنجاح، وقد تعمدوا تسميتها precision Strike أي الضربة فائقة الدقة بغرض إظهار التفوق التقني ودقة الآلة العسكرية المتناهية في إصابة أهدافها. كانت تصريحات الرسميين مقتضبة وحذرة وحتى غامضة في بعض الأحيان. وهو أمر حرك أسئلة واستفهامات حول معنى الضربة وسياقها والاستراتيجية التي تحدد ما قبلها وما بعدها وأغراضها السياسية ومراميها النهائية.
حرص خطاب التحالف الأمريكي-الفرنسي-البريطاني على عزل الضربة عن سياق الأزمة السورية نفسها، معلنين أنها لا تأتي في سياق مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، وليست لإضعاف النظام السوري أو تحجيم ترسانته العسكرية، ولا تهدف إلى أي تغيير في موازين القوى داخل سوريا، بقدر ما هي استثناء آلة القتل الكيميائية من التداول والاستعمال في الصراع، وعقاب أقرب إلى تأنيب ضد النظام السوري لاستعماله هذا السلاح ضد مواطنين إبرياء من السوريين.
جهد الجميع، محللين واستراتيجيين وحتى مفكرين في إيجاد معنى لهذه الضربة، فتعددت التأويلات والتحاليل:
بين قائل بأنها رسالة إلى روسيا قبل سوريا بأن الولايات المتحدة قادرة على ضرب العمق السوري بما فيه العاصمة دمشق والوصول إلى أي هدف حتى لو كان تحت الحماية والوصاية الروسيتين، وأن الضربة لإظهار التفوق التقني للآلة العسكرية الأمريكية على الآلة العسكرية الروسية، ما يعني أن المعسكر الغربي قادر في أية لحظة على تغيير موازين القوى في الداخل السوري، ليقطع بذلك الطريق على أي طموح روسي-إيراني بالحسم العسكري، ويبث رسالة بأن الحل السياسي المتوازن هو الحل الوحيد المتاح. وهو قول تؤيده الضربة نفسها، التي أظهرت قدرة الطيران الحربي الغربي على الوصول إلى العاصمة وضرب أهداف موزعة ومتباعدة بدقة متناهية مع هشاشة وضعف في أحهزة الدفاع السوري، ما جعل الضربة عينة ناجحة لأية هجمة عسكرية شاملة في المستقبل ضد النظام السوري.
وقائل بأن الضربة ليست سوى علامة ضعف وتخبط إضافية للاداء الأمريكي الأوروبي داخل سوريا. فمع غياب أية استراتيجية أو رؤية أو آليات لتنفيذ مقترحات الحل السياسي، ومع تأكيد المعسكر الغربي على عزل الضربة الأخيرة عن سياق الأزمة السورية، ومع تمادي النظام السوري بدعم إيراني وتغطية روسية على ممارسة القتل الجماعي من دون أي رادع، فإن الساحة السورية باتت مفتوحة للثنائي الروسي الإيراني، الذي ألقى بكامل ثقله داخل المجال السوري مقابل انكفاء شبه شامل من المعسكر الآخر. ما جعل رهانات النظام السوري حول الحسم العسكري ممكنة ومباحة بعد انتفاء موانعها الدولية والمحلية.
وقائل، وهو الأقرب، بإن الضربة، بطبيعتها والخطاب الغربي الرسمي الذي أعقبها، ليست دليل تخبط بل إشارة واضحة ومقصودة على استقالة المعسكر الغربي من الساحة السورية، واعتبارها خارج دائرة اهتماماته الاستراتيجية والاقتصادية. وهو أمر تجلى في حصر الاهتمام الغربي في سوريا بالقضاء على قوى الإرهاب الديني بسبب توسع مداه الدولي واعتبار الغرب مجال حهاد مقدس له، وتجلى في عزل الأزمة السورية عن العالم وتطويق ارتداداتها ومنع شظاياها من الوصول إلى دول الجوار، إضافة إلى حظر استعمال السلاح غير التقليدي (الكيماوي والبيولوجي) بحكم سهولة تسريبه إلى الخارج والخطر الكبير الذي يحمله فيما لو انتشر في العالم.
لسنا هنا أمام تخبط غربي، بل أمام انسحاب متعمد، ولامبالاة مقصودة تجاه أنواع قتل جماعي صنفت بتوثيق دقيق من المنظمات الحقوقية على أنها جرائم حرب ضد الإنسانية. ما حصر الإدانة والعقاب بآلة القتل وليس القتل، باسلوب الجريمة لا الجريمة نفسها.
مهما تعددت تأويلات الضربة الأمريكية الأخيرة، فإن حصر العقاب باستعمال الكيماوي فقط من دون أن يتعداه إلى العقاب على القتل الجماعي البشع، إضافة إلى عزل الضربة عن أي سياق سياسي أو عسكري داخل سوريا، يعتبران أثمن هدية تقدمان للنظام السوري الذي بدت عليه علامات الارتياح والفرح إثر الضربة، بل تعمد إقامة احتفالات النصر بعد أن حبس أنفاسه لأيام.
من المؤكد أن النظام السوري تجاوز كل مخاطر إسقاطه، وصار طليقاً وحراً في تأديب شعبه بالطريقة التي يحلو له بها، باستثناء الكيماوي، بعدما صار القتل الجماعي من المسكوت عنه واللامصرح به في المحافل الدولية، وبعدما سقط الغرب الديمقراطي (باستثناءات قليلة) في التعاطي مع أزمة اللاجئين السوريين بالمستوى الأخلاقي والإنساني الذي يدعيه.
بات النظام السوري الحالي قدر سوريا، ونموذجاً ناجحاً لسلطة الخوف والرعب التي يبدو أن الطلب عليها آخذ في الازدياد في العالم.