ثمّة "شبكة" مركّبة ومتعدّدة باتت تنسجها سائر الأطراف المتدخلة حربيا في سوريا، على اختلاف مواقعها، مع النظام أو ضده، ومن خارج ثنائية النظام – الثورة أو من داخلها أو على أطلالها. يصعب اختزال مجمل هذه التدخلات في معادلة واحدة وشاملة. لنأخذ الجانب الروسي مثلا. أدى دورا أساسيا في ترجيح كفة النظام ضد الفصائل المحاربة له، من حلب حتى الغوطة، بواسطة التدخل الجوي، لكن علاقة التدخل الروسي بالتدخل الإيراني مركّبة.
فمن ناحية، التدخل الروسي يلاقي التدخل الإيراني في نصرة النظام وحربه. لكن، من ناحية ثانية، التدخل "البري" الإيراني والموالي لإيران، وقف حجر عثرة دون تمكين موسكو من تحويل رصيدها الحربي في سوريا إلى رصيد سياسي، من أستانا حتى سوتشي. موسكو نفسها التي تعدّ الضربة الأمريكية ـ الفرنسية ـ البريطانية عدوانا على سوريا، وتحرّك ديبلوماسيتها لشجب الضربة أمام المحفل الدولي كخروج على القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ومرجعية مجلس الأمن، ليست تستخدم هذا النوع من الخطاب بإزاء الغارات "نصف الشهرية" الإسرائيلية على أهداف تتبع لـ "حزب الله" والحرس الثوري والتنسيق السوري ـ الإيراني في الداخل السوري. هناك تقاطع روسي – إيراني، وهناك تقاطع روسي – إسرائيلي، وكان هناك حتى وقت من الآن تقاطع روسي – أمريكي وروسي – فرنسي، حيال الملفات السورية، بل إنّ الأساس الوظيفي لهذه التقاطعات كلها ما زال قائما.
في ورشة هذه التدخلات المتراكمة بعضها فوق بعض، والمحتكة بشكل يزداد خشونة، لا سيما في أعقاب الهجوم الكيميائي الأخير في الغوطة، وموجة التصلّب والتراشق بين المجموعة الغربية وموسكو، وصولا إلى الضربة وتداعياتها، نجد أنّ ثمّة "تبدّلا" حدث مع الوقت. ففي السنوات الأولى للحرب السورية، كان الخلاف هو إذا كان ينبغي العمل على مواجهة التنظيمات المتطرفة أولا، أو إسقاط النظام أولا. الرأي الروسي كان مساعدة النظام على ضرب هذه التنظيمات الواحد منها تلو الآخر، وفتح شرايين الإصلاح في هذا النظام بشكل متناسب مع هذا العمل على ضرب هذه الفصائل. الرأي الغربي كان، في البدء، أن هذه التنظيمات تفرّخ بسبب نظام كهذا، والأولوية للتعجيل بالإطاحة به.
لكن كان هناك، منذ البدء أيضا، رأي غربي آخر، يدعو إلى ترك الطغيان الدموي والتطرف الجهادي ينهشان في لحم بعضهما البعض حتى التلف. ثم ظهر متغير في الموقف الغربي ككل بعيد استيلاء "داعش" على مساحة جغرافية واسعة من العراق وسوريا، وإعلانها الخلافة من مدينة الموصل. أعطت عواصم القرار الغربي حينها الأولوية لمحاربة تنظيم "داعش" على مواجهة نظام بشار الأسد، وفي الوقت نفسه دار جدال داخل أروقة اتخاذ القرار؛ هل يمكن الاستعانة بالأسد في مواجهة "داعش" أو ينبغي التشديد على التواطؤ الموضوعي بين داعش والأسد. لكن بالنتيجة هيمن تقديم محاربة "داعش" على محاربة بشار الأسد، رغم أن الإدارة الأمريكية في عهد باراك أوباما، كانت تميل إلى التفلت من إظهار الأمر بهذا الوضوح، مع أنها كانت تستبطنه، في حين تكفل دونالد ترامب في حملته الانتخابية الصاخبة بتبني هذا الموقف، بل قادته أولوية مكافحة "داعش" إلى نوع من التطبع مع استمرار نظام بشار الأسد في دمشق، ليتبدل الرأي عنده العام الماضي في أعقاب الهجوم الكيماوي على خان شيخون، مع أن الأولوية العملية بقيت لإلحاق الهزيمة بتنظيم "داعش"، بنوع من "التحالف" بين سلاح الجو والبحر الأمريكيين ومليشيات الحشد الشعبي العراقية، والبيشمركة ومسلحي "حزب العمال الكردستاني"، لدحر هذا التنظيم في "عاصمتيه"، الموصل والرقة.
شكلت محاربة "داعش" عنوانا لتقارب روسي – أمريكي أيضا في عز التوتر بين البلدين على خلفية الأزمة الأوكرانية وضم روسيا للقرم. اعتبرت موسكو كما واشنطن أن الأولوية لإنهاء "داعش". وعزّزت روسيا حضورها في سوريا على هذا الأساس، إنما لتستهدف بترسانتها الحربية فصائل أخرى، إسلامية جهادية أو نصف – جهادية، لكنها قلما استهدفت "داعش" بحد ذاته، الأمر الذي أعاد توليد عنصر اختلاف وتوتر أمريكي – روسي حول أداء موسكو في سوريا. في الوقت نفسه اعتبرت موسكو أنه عليها تجيير رصيدها الحربي في سوريا لبلورة حل سياسي "روسي"، يستعيد نموذج قمع الشيشان وإعادة إعمارها من بعد تبديل بنيانها السياسي برمته، واستئصال الجماعات الأصولية منها. ووضعت موسكو هذا في مقابل المساعي الدولية، الغربية بالنتيجة، للحل السياسي، بدءا من جنيف.
هناك اليوم، في عزّ الخلاف الأمريكي – الروسي حول سوريا وايران وأوكرانيا وبريطانيا ومسائل أخرى، نقطة تلاق جديدة بين الدولتين اللدودتين. نقطة التلاقي هي أنّه كلما جرى إخراج الفصائل المسلحة من المناطق السورية المختلفة نحو مربع إدلب، صار مصير العملية السياسية في سوريا يقتضي البحث جديا. طبعا، ثمة مكابرة روسية على قسم من هذه المعادلة، يتعلق باستشعارها "وحدة الحال" مع نظام آل الأسد في مواجهة الضربة الأخيرة مثلا. لكن روسيا تقود عمليا مسار الانتهاء من الفصائل خارج مربع إدلب، ولها أجندة سياسية للحل في سوريا يعطلها بشار الأسد والإيرانيون قبل سواهم. أما الولايات المتحدة، فبعد أن كانت حاسمة في إعطاء الأولوية لإنهاء "داعش" قبل التطرق العملي إلى موضوع الأسد، فإن موقفها من الفصائل التي لم تغادر بعد إلى مربع إدلب غير واضح، لكن مواجهتها لبشار الأسد ارتفع منسوبها في الأسبوع الأخير، وللمفارقة مباشرة بعد إعلان ترامب الانسحاب من سوريا.
ثمة وقت لا بد من استهلاكه قبل رؤية نقطة التلاقي الأمريكي – الروسي حول ربط حصر الفصائل بمربع إدلب أكثر فأكثر، بمناقشة أكثر جدية بين عواصم القرار لخارطة الحل السياسي لسوريا. لكن العناصر الأولية لهذا التلاقي باتت مؤمّنة، رغم كل مشهد الخشونة الزائدة بين موسكو وواشنطن. في العاصمتين، ثمة اعتبار يقول بأنّ الحل السياسي مطروح أكثر كلما انسحبت الفصائل نحو إدلب أكثر فأكثر. لا يلغي هذا، أن روسيا أكثر تشابكا مع إيران من أي وقت سابق، وأمريكا تستعد لعدم تجديد رفع العقوبات عن إيران بعد أسابيع. ليس عند إيران أي حل سياسي مطروح في سوريا سوى "إبقاء" حال النظام على ما هو عليه. وهذا مختلف عن الموقف الروسي، إبقاؤه كوسيلة لضرب الفصائل، وعن الموقف الغربي، المتمثل بعودة الروح لرفض التطبع مع بقاء هذا النظام، والنظر بشكل جزئي إلى تراجع الفصائل المسلحة على أنه يسمح أكثر للمجموعة الغربية بالتدخل ضد هذا النظام.