أعلن النظام السوري عقب الضربة الغربية الأخيرة التي تعرضت لها مواقعه «النصر»، من دون أن يُعلن على من انتصر. والضربة طبعاً لم تكن لها قيمة ميدانية، وهي كانت أشبه برسالة ناعمة. لكن منطق «النصر» يشتغل بآلية أخرى لا علاقة لها بما جرى، ذاك أن وظيفته استنهاض عصبية من حول النظام تقيه مما تسرب من أوهام حول هشاشته.
النظام السوري لم ينتصر على التحالف الغربي الذي وجه إليه الضربة العسكرية. ولم ينتصر على الإسرائيليين بطبيعة الحال. لقد أعلن انتصاره في حرب أخرى، حاجته إلى النصر فيها كبيرة. النظام عاد وانتصر على الناس الذين قصفهم بالكيماوي. أميركا وحلفاؤها غير معنيين بما أعلنه النظام. الرسالة التي وجهوها عبر غاراتهم جاءت في سياق آخر تماماً. فقد أرادت كل من واشنطن ولندن وباريس أن تقول لموسكو إن سورية ليست منطقة نفوذ روسي بالمطلق وإن لبوتين شركاء في النفوذ ويحق لهم توجيه ضربات للنظام ساعة يشاؤون. وها هم يفعلونها. الصراع في سورية لا يعنيهم في سياقه السوري. هم انتصروا أيضاً. حققوا المهمة بدقة، وموسكو اعترفت لهم بحقهم في الرد.
بشار الأسد انتصر بعد الغارات، والتحالف الغربي انتصر أيضاً، وكانت موسكو وطهران قد سبقتا الجميع إلى «النصر». ثمة مهزوم واحد في هذه المعادلة. أهل دوما الذين قالت العواصم الغربية إنها معنية بمعاقبة من قصفهم بالكيماوي، وقال النظام إنه انتصر عليهم.
«النصر» ضروري في معادلة العلاقة القاتلة بين النظام وبين الجماعات الأهلية من حوله. هو كيمياء هذه العلاقة، وهو مؤشرها ووجهتها. فأن يتوهم السوريون أن النظام الذي يقتلهم مهزوم أو غير منتصر، فإن الأخير سيفقد القدرة على حكمهم وعلى قتلهم. خرافة النصر يُعد لها قبل وقوع الحرب عادة، ذاك أنها أهم من الحرب نفسها، وأهم من نتائجها، وهذه معادلة ليست جديدة. فعقب نكسة العام 1967 تعلم العرب وأنظمتهم بالدرجة الأولى أن لا قيمة للحروب إلا بإعلان النصر بعدها. النكسة كانت الهزيمة الأخيرة، وبعدها رحنا نُسجل نصراً تلو الآخر، و «عدونا» حائر بنا. لقد دمرنا وأنهك اقتصادنا وقتل منا أضعاف ما قتلنا منه، وها نحن نعلن انتصارنا. الأعداء يفركون عيونهم غير مصدقين! كيف يمكن هزم هؤلاء؟
القصة هي في مكانٍ آخر تماماً. العدو غير معني بـ «نصرنا»، ونحن إذ انتصرنا في حربنا معه، لم ننتصر عليه. هذه هي المعادلة. هو حقق أهدافه من الحرب، ونحن حققنا أهدافنا. عليه إذاً أن يعترف لنا بهذا «النصر». ومع تقدم الأيام شعر العدو بأن نصرنا لا يضيره، فراح يعترف لنا به. حصل هذا تماماً في لبنان في حرب العام 2006. فإسرائيل حققت أهدافاً في هذه الحرب لم تحققها طوال مرحلة حروبها في لبنان. هدنة على الحدود هي الأطول منذ تأسيس إسرائيل، و15 ألف جندي دولي يحرسون حدودها، ودمار هائل في المدن والبلدات اللبنانية، ومقابل كل قتيل إسرائيلي في هذه الحرب سقط أكثر من عشرة لبنانيين. وبعدها أعلن حزب الله «النصر». وحينها تيقنت تل أبيب من أنها غير معنية بهذا الإعلان، وتعاملت معه بصفته حدثاً خارج الحدود، ولم تكن مخطئة، ذاك أن حزب الله نقل بعد ذلك جهوده بعيداً عن حدودها. انتصر عليها وغادر إلى بيروت وبعدها إلى دمشق. فها من «نصر» جميل أكثر من هذا «النصر»؟
اليوم أعلن بشار الأسد الـ «نصر». الدول صاحبة الضربة، غير معنية على ما يبدو بإعلانه. لقد نفذت العواصم الغربية غاراتها على مواقع النظام في سياق مهمة أخرى ليست على الإطلاق حماية أهل دوما من غاز الكلور. رسالة إلى موسكو، وأخرى إلى تل أبيب، وتأديب النظام ليس بسبب قتله أهل دوما، فهو يفعل ذلك كل يوم، إنما على تجرُّئِه على قتلهم بأدوات لا يليق بالمجتمع الدولي السكوت عنها. لقد قالوا له اقتلهم بالأدوات «الحلال»، وهو اليوم بصفته منتصراً سيفعل ذلك موقعه المُعزز هذا.
سيموت أهل دوما من الآن وصاعداً موتاً حلالاً، وهذا ما سيُخفف من الأعباء التي تُرهق ضمير هذا الكون المعذب.