ما قاله رئيس الحكومة سعد الحريري في شأن الاصلاح هو بيت القصيد. وقد أعلن في مؤتمره الصحافي لشرح نتائج مؤتمر «سيدر»، ان الاصلاحات ليست مجرد شروط دولية للافراج عن القروض المخصصة للبنان، بل انها ضرورة لبنانية ينبغي الالتزام بها، حتى من دون وجود مؤتمر «سيدر».
طبعاً، من حق اللبنانيين أن يشعروا بالغضب، لأن الاصلاح عندما يتأخر، وعندما تتراكم الأزمات والديون والعجز، يصبح الثمن المطلوب للخروج من الهوة باهظاً، وقد أدركوا انه لا توجد دول اومؤسسات خيرية، يمكن ان تتولى تسديد بعض الاثمان بالنيابة عنهم. وبالتالي، كل قرش في الدين العام سوف يسدده المواطن، وهناك اكثر من طريقة للوصول الى ذلك. وكلما تأخر قرار المعالجة، وتم تأجيله، كلما كانت المعالجات اللاحقة موجعة أكثر.
لكن المشكلة لا تكمن فقط في مسألة قبول الناس بالمعالجات الموجعة، بل في كيفية اقناعهم بأن يدفعوا اموالا مستحقة، سرقها مسؤولون في الدولة، أو أهدروها بسبب الاهمال او النكايات السياسية أو حتى قلة الضمير. والأصعب كيف تقنع الناس بأن يتنازلوا عن قسم من قدراتهم الشرائية، وان يحرموا أنفسهم من بعض مقومات العيش الكريم، وهم غير واثقين ان مسألة السرقة والهدر قد انتهت فعلاً، وان ما يُدفع هذه المرة، لن يذهب قسم كبير منه الى جيوب المنتفعين والفاسدين.
هذه الاشكالية تساهم باشاعة مناخ يدفع الى التهرّب الضريبي. واذا كان مبدأ التهرّب الضريبي موجودا في دول لا يتعرض المال العام فيها للسرقة، وتستخدم الاموال العامة في خدمة المكلفين أنفسهم، فكيف يكون الحال في بلد ماله العام سائب، وما يدفعه المكلف يعرف ضمناً انه سيزيد في ثروة بعض النافذين الفاسدين.
هذا الواقع هو الذي سيحول دون تنفيذ الاصلاحات الموجعة التي يتحدث عنها المسؤولون في هذه الفترة. ويبدو ان لائحة هذه الاصلاحات طويلة، وفيها بعض النقاط غير المعلنة والتي سيتم الكشف عنها بعد الانتخابات، لأن الحديث عنها قد يوتّر الاجواء ويدفع بشرائح واسعة الى مقاطعة الانتخابات النيابية، وليس هذا ما يريده المسؤولون.
واحدة من تلك النقاط الساخنة، كشفها بالصدفة، أو ربما عن سابق تصوّر وتصميم وزير الاقتصاد والتجارة رائد خوري، الذي اعلن ان نظام التقاعد في القطاع العام سيكون مطروحا للاصلاح.
في الواقع، هذا النظام يحتاج فعلا الى اعادة نظر شاملة، لكن السؤال المطروح هل تستطيع السلطة، بتركيبتها وتوازناتها المعروفة، وهي توازنات لن تتغير نتيجة الانتخابات النيابية المقبلة، ان تقارب ملف الموظفين في القطاع العام؟
من المعروف ان نظام التقاعد الذي أصبح ساريا في لبنان منذ 16 حزيران 1959، تاريخ نشره في الجريدة الرسمية، لم يخضع للتعديل أو التحديث سوى مرات قليلة، وفي معظم التعديلات، كان الهدف تثبيت مكاسب الموظف وليس العكس. وقد واجهت الحكومة أزمة مستعصية، عندما حاولت قبل اقرار سلسلة الرتب والرواتب ان تحتسب المبالغ التي ستترتب للمتقاعدين. ويتبيّن ان هذا الغموض لا يزال قائما حتى اليوم! ومن المعروف ان نظام التقاعد المعمول به، يمكن ان يمتد لسنوات طويلة، اذ تتم وراثة المعاش التقاعدي، من قبل الاولاد والزوجة أو الزوج. واذا صدف ان هناك ابنة ارملة او غير متزوجة فانها ترث المعاش التقاعدي حتى وفاتها، بما يعني ان بعض الرواتب التقاعدية تدفعها الخزينة، بعد تقاعد الموظف لمدة قد تصل الى 80 أو 90 سنة!
هذا النظام المتهالك والمعقد يحتاج فعليا الى اعادة نظر شاملة، لكن من سيتمكن من فتح هذا الملف؟ واذا كان المياومون غير المتعاقدين اصلا للعمل وفق نظام المياومة مع الدولة، قد تحولوا الى امر واقع لا تستطيع الدولة تجاوزه، فهل تستطيع الدولة نفسها أن تقارب ملف نظام التقاعد الذي يطاول كل موظفي الدولة، العاملين والمتقاعدين؟
للتذكير، هناك حاليا لجنة منبثقة عن المتقاعدين في الاسلاك العسكرية، تجول على المرشحين للانتخابات النيابية، وتطرح عليهم توقيع وثيقة تنص فيما تنص على موافقة المرشح على الانضمام الى كتلة «الدفاع الوطني النيابية». ويطالب هؤلاء المتقاعدون باسقاط اي قانون ينتقص من حقوقهم المكتسبة، ورفع التجزئة عن معاشاتهم التقاعدية بعد الزيادات التي لحقتهم جراء السلسلة، ورفع نسبة الزيادة المقررة لهم الى 125%، ومنحهم ثلاث درجات استثنائية...
هذه النماذج هي لاثبات صعوبة وخطورة الملف الاصلاحي الذي ستكون الحكومة المقبلة في مواجهته. وكان يمكن لهذا الملف المعقّد أن يكون أسهل، لو أن السلطة أثبتت ان زمن السرقة والهدر انتهى فعلاً. لكن مع استمرار مناخ الفساد على مستوى الطبقة الحاكمة، هل يمكن أن يوافق مواطنٌ على استئصال قسم من مكاسبه وحقوقه ومدخوله للمساهمة في ما تسمّيه السلطة بدء زمن الاصلاح؟