لا يقتصر تمثيل «حزب الله» الفعلي لبيئته على جانب واحد متصل بتعبيره عن تطلّعاتها السياسية، وهو الجانب الأبرز بطبيعة الحال، إنّما هناك مجموعة عوامل لا يجوز الاستخفاف أو الاستهانة بها، وفي طليعتها تشكيلُه دورةً اقتصادية متكاملة داخل البيئة الشيعية تُزاوج بين البُعدين المصلحي-الحياتي والسياسي في ظلّ شريحةٍ واسعة تعتبر أنّ وجودها الاجتماعي يتوقف على «حزب الله» واستمراره، وبالتالي هي على استعداد لأن تقاتلَ دفاعاً عن لقمة عيشِها التي مصدرُها الحزب، فتصبح القناعة السياسية مكمّلة او نتيجة في لا وعيها لمصدر عيشِها، وكلّ ذلك للقول إنّ هناك غياباً للقدرة على المنافسة الجدّية بين ثنائية تمسّكِِ بالسلطة والمال والسلاح، وبين معارضة شيعية تتّكئ على موقفها السياسي، أي سلاح الموقف.
وعلى رغم التفاوتِ الكبير في الأحجام والقدرات نجد أنّ «حزب الله» يستنفر كلّ قوته اللوجستية والتعبوية من أجل إقفالِ الساحة الشيعية أمام بروز خيارٍ شيعي ثالث تمثيلي، فهذا الخيار موجود سياسياً، إنّما يفتقد القدرةَ إلى ترجمة حضوره السياسي نيابياً ومن ثمّ حكومياً، وبالتالي معركة الحزب الأساسية، كما أعلنَ مراراً وتكراراً، انتخاب ٢٧ نائباً شيعياً من أصل ٢٧.
ويستفيد «حزب الله» من عامل أساس وهو انقسام المعارضة الشيعية تنظيمياً وحتى سياسياً، فيما لو نجَحت في توحيد صفوفها وأهدافها لكانت شكّلت تحدّياً فِعلياً للحزب، إنّما تعاني من غياب وحدة الصفّ والأسوأ وحدةِ الموقف في ظلّ نجاحِ الحزب في تحويل المقاومة إلى عقيدةٍ سياسية حتى لدى خصوم الحزب داخل الطائفة الشيعية، وهذا بحدّ ذاته يشكّل نقطة ضعفٍ بنيوية لجزء أساس من المعارضة الشيعية التي لا يمكنها منافسة «حزب الله» بسلاحه وأهدافه وخطابه، وتحويل المعركة معه إلى مجرّد منافسة إنمائية وخدماتية.
وقد يكون مفهوماً ومبرَّراً أن لا تكون المواجهة حادة معه وطنياً وسياسياً، إنّما خلوُّها من البعد السياسي يُفقدها القدرة على تشكيل البديل السياسي او الخيار البديل الذي يمكنه ملاقاة الشريك الآخر في البلد، كما أنّ خطورة توجّهِ من هذا النوع أنه يُرسِّخ في اللاوعي الشيعي فكرةَ أنّ المقاومة هي خط أحمر، بل ترتقي إلى مصاف المقدّسات، وأنّ الخلاف هو ما دون المقاومة، الأمر الذي يَحول دون التلاقي الوطني المطلوب، فيما الخلاف الجوهري مع الحزب هو حول مفهوم المقاومة بحد ذاته، حيث لا يمكن ان تتعايش دولة ومقاومة، والدليل انّ الدولة في لبنان صوريّة في ظلّ إمساك المقاومة بمفاصلِها الاستراتيجية الأساسية، فضلاً عن أنّ مشروعاً من هذا النوع لا يستوي في بيئة لبنانية تعدّدية ترى في المقاومة مشروعاً شيعياً بامتداد إيراني يتعارض مع المصلحة الوطنية اللبنانية الميثاقية والسيادية.
وفي موازاة كون مشروع المقاومة يتنافى مع مشروع الدولة الذي يشكّل وحده الضمانة لجميع اللبنانيين شيعةً وسنّةً ودروزاً ومسيحيين، فإنّ مشروع المقاومة هو استقواء فئةٍ لبنانية على فئات أخرى، الأمر الذي ينسف كلَّ مفهوم العيش المشترك وفلسفته، فيما السيادة غائبة ومغيّبة ومنتهكة.
وإذا كانت الظروف الانتخابية الآنية قد فرَضت إيقاعها على بعض المكوّنات الشيعية المعارضة تلافياً لإعطاء «حزب الله» مادةً سياسية يستقوي بها على أخصامه، وبالتالي إقفال الطريق على الحزب في قضية حساسة اسمُها المقاومة، فإنّ التحدّي الأساس الذي يفرض نفسَه على هذه الفئة في مرحلة ما بعد الانتخابات هو في تشكيل جبهة سياسية شيعية تُصدر وثيقة سياسية تُحدّد فيها رؤيتَها الوطنية ووقوفَها الحاسم إلى جانب خيار الدولة الجامع ورفضها لخيار المقاومة، كما نسفِها لكلّ فكرة أنّ المقاومة تُشكّل الضمانة للشيعة في لبنان ودورهم، فيما ضمانتُهم الوحيدة على غرار غيرهم من الطوائف هي الدولة.
وعلى رغم كلّ ما تقدَّم وغيره من عوامل تصبّ في خانة «حزب الله» ومصلحته، فإنّ التعبئة القصوى التي يمارسها على الأرض ومن خلال الإطلالات المتكررة لأمينه العام السيّد حسن نصرالله تؤشّر إلى الآتي:
أوّلاً، وجود تملمُل كبير داخل البيئة الشيعية ممّا آلت إليه السياسة التي يعتمدها الحزب تحت عنوان «لا شيء يعلو فوق صوت المعركة».
ثانياً، غياب الحماس لدى فئات شيعية واسعة لخطابات ومواقف لا تجد ترجماتها على أرض الواقع، وبالتالي امتناعُها عن الاقتراع.
ثالثاً، إفتقادُ عنوان المقاومة للجاذبية السياسية المطلوبة في ظلّ أولويات حياتية ومعيشية تتصدّر ايّ أولوية أخرى، وهذا ما يفسّر الخلفية الكامنة وراء إطلاقِ الحزب لوثيقته الاجتماعية والاقتصادية والإنمائية.
رابعاً، الإطلالات المتكررة للسيّد نصرالله والتعبئة القصوى لماكينته الحزبية تدلّ بوضوح على وجود خيارٍ شيعي ثالث يَخشى الحزب منه جدّياً، ولكن الأساس في ان يدرك هذا الخيار وجوده ويَعمل على تعزيز وضعِه ودوره، حيث إنّ مرحلة ما بعد الانتخابات يجب ان تشكّل مساحةً لنضالٍ فعلي تتّكئ فيه على تجربتها الانتخابية للانطلاق نحو تثبيت شعبيةٍ وشرعية.
ويبقى أخيراً التساؤل الآتي: إذا كانت التحدّيات التي يواجهها «حزب الله» هي نفسُها التي تواجهها حركة «أمل»، فلماذا لا تلجأ الحركة إلى تعبئة مماثلة لتعبئة الحزب، ولماذا لا ينظّم الرئيس نبيه بري ويُجدول إطلالاتٍ تعبوية على غرار إطلالات السيّد نصرالله على رغم انتقاله إلى المصيلح في خطوةٍ أقلّ من طبيعية؟ الجواب الأوّلي هو أنّ الحزب مأزوم، خلافاً للحركة، وهذا ما يفسّر أساساً مبادرةَ الحزب إلى توزيع المقاعد مناصفةً مع الحركة، فيما كلّ نظرية أنّ الحزب أقوى من الحركة تنتمي إلى الماضي مع نجاح الرئيس بري في إظهار صوابية خياراته حيال بيئتِه مقارنةً مع خيارات السيّد نصرالله. وللبحث صلة.