تحوم شبهة وجود دوافع سياسية وانتخابية، وراء الصراع الدائر على منصب قائد شرطة البصرة، المحافظة الواقعة بجنوب العراق، والأكثر مساهمة في تمويل الموازنة العراقية كونها المصدر الرئيسي للنفط، والمشرفة على المنفذ البحري الوحيد للبلاد.
واعترض مجلس المحافظة على تعيين قائد جديد للشرطة من قبل رئيس الوزراء حيدر العبادي، في إطار سلسلة أطول من الإجراءات الهادفة إلى ضبط فوضى السلاح وإقرار الأمن، بعد أن بلغت الأوضاع هناك درجة كبيرة من الخطورة، مع استشراء الصراعات العشائرية، وتفشي الجريمة بنوعيها الفردي والمنظّم.
الجدل الحادّ الدائر بشأن منصب قائد شرطة محافظة البصرة، صدى لخضوع المعطى الأمني في العراق للاعتبارات السياسية والحزبية، وحتى الطائفية والمناطقية، وهو أحد المطاعن الكبرى في جهود البلد لاستعادة أمنه واستقراره المفقودين منذ سنوات طويلة
ورغم أنّ المحافظ ليس سوى رجل الأعمال أسعد العيداني، المرشح رقم ثلاثة على قائمة “النصر” الانتخابية التي يقودها العبادي نفسه، فإنّه لم يملك سوى الخضوع لقرار مجلس المحافظة برفض تعيين اللواء الركن جاسم السعدي، المنقول من محافظة ديالى، على رأس شرطة البصرة بحجّة أن عملية التعيين غير دستورية.
ووجد المحافظ نفسه في موقف بالغ الحرج يصوّره في هيئة “المتمرّد” على قرار رئيس الوزراء، الذي هو في نفس الوقت “رئيسه” في التحالف الانتخابي، ما اضطرّه للتوضيح بأنّ رفض تعيين السعدي وفتح باب الترشّح لضباط آخرين لشغل منصب قائد الشرطة “ليس تمرّدا على قرار العبادي ولكنّه أمر دستوري”، مضيفا “عندما تصل المحافظة إلى طريق مسدود تحتكم إلى الدستور”.
ومن جهتها اتهمت جهات سياسية وإعلامية عراقية مساندة لرئيس الوزراء، منافسين سياسيين للعبادي بالوقوف وراء تعطيل “إجراء روتيني تقني ذي أبعاد أمنية منفصلة عن أي أهداف سياسية”.
ولم يتردّد البعض في الإشارة تصريحا لا تلميحا إلى رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي يخشى، بحسب هؤلاء، من أن ينجح العبادي في استقطاب أصوات الناخبين بمحافظات الجنوب، معقل الأحزاب الشيعية ومن ضمنها حزب الدعوة بقيادة المالكي نفسه.
ويمثّل المعطى الأمني، وتحديدا الانتصار العسكري المتحقّق ضدّ تنظيم داعش، أهم ركائز الحملة الانتخابية للعبادي. ومن شأن تحقيق إنجاز آخر من نفس القبيل في البصرة التي يتوق أهلها إلى الأمن والاستقرار، أن يدعم حظوظه الانتخابية في محافظات تبدو فيها المنافسة شرسة وصعبة بين أكبر الحركات والتنظيمات السياسية الشيعية.
ويرى متابعون للشأن العراقي، أنّ الضجّة القائمة حول منصب رئيس شرطة البصرة، أمر طبيعي في ظلّ الأجواء الانتخابية المشحونة، والتي تجعل أيّ إجراء حكومي أو قرار سياسي أو أمني، موضع اشتباه بأن له دوافع انتخابية.
جاسم السعدي: سأطبق القانون بقوة. ومن لديه اعتراض فأبواب رئيس الوزراء مفتوحة
ويذكّر هؤلاء، بأنّ الضجة كانت قد ثارت أصلا على نقل اللواء الركن جاسم السعدي من ديالى إلى البصرة بعد أن حقّق إنجازات أمنية في ديالى المعروفة بأوضاعها الصعبة وبأنّها هدف رئيسي لنشاط فلول تنظيم داعش.
وفي المحافظة ذاتها خرجت بعض المظاهرات احتجاجا على نقل السعدي. ومما قيل عن قرار النقل، إنّ الهدف منه فتح الباب لتزوير الانتخابات في المحافظة عبر المجيء بقائد شرطة موال لجهات سياسية بعينها.
وفي المقابل قيل عن السعدي إنّه موال لزعيم منظّمة بدر هادي العامري، وإنّ تعيينه بالبصرة يخدم أغراضه الانتخابية.
ويكشف كلّ هذا الجدل أن الوضع الأمني في العراق جزء لا يتجزّأ من الصراع الانتخابي، بل من الصراع السياسي ككل، الأمر الذي يفسّر جانبا من ضعف مستوى الأمن بالبلاد.
ويذهب خبراء الشؤون الأمنية، إلى أنّ خضوع الملف الأمني للأغراض والمآرب السياسية، هو بعض ما سهّل دخول تنظيم داعش إلى الموصل صيف سنة 2014 واحتلالها والانطلاق منها لغزو ما يتجاوز ثلث مساحة العراق، حيث تبّين لاحقا أن كبار القادة الأمنيين في نينوى وغيرها معيّنون في مناصبهم الخطيرة على أساس الولاءات الحزبية والطائفية والعرقية وليس على أساس الكفاءة والمهنية.
ويحسب للعبادي أنّه أعاد ترميم صفوف القوات المسلّحة بعد أن اقتربت من الانهيار بعد غزو داعش، وعيّن ضباطا على رأس الجيش والشرطة كانت لهم آثارهم في الحرب ضدّ التنظيم.
وفي وقت سابق كلّف رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي جاسم السعدي بقيادة شرطة البصرة الذي تسلّم مهامّه الخميس لكنّه اصطدم برفض الإدارة المحلية ممثّلة بالمحافظ ومجلس المحافظة له.
وقال المحافظ أسعد العيداني، في مؤتمر صحافي عقده بمبنى المحافظة إنّ “السعدي تسلّم منصب قائد الشرطة من اللواء عبدالكريم المياحي في عملية جرت بسلاسة”. لكنّه استدرك “نحن نتعامل مع السعدي على أنه قائد بالوكالة”.
وأضاف “بحسب الصلاحيات المخوّلة للمحافظ والحكومة المحلية، يجب ترشيح أسماء للمنصب، ورفعها إلى مجلس المحافظة، بغية التصويت لاختيار قائد جديد لشرطة البصرة”، مشيرا إلى أنّ “الترشيح سيكون مفتوحا من الأحد، وإلى غاية الخميس المقبل”، وموضّحا “أنا لا أعترض على أي ضابط يتقدم للمنصب، وتنطبق عليه الشروط بمن فيهم اللواء السعدي”.
وفي وقت سابق قال اللواء الركن السعدي، خلال مؤتمر صحافي في البصرة “سأطبق القانون بقوة في البصرة، ومن لديه اعتراض على تسلّم مهامي، فأبواب رئيس الوزراء مفتوحة”.
وعلى مدار الأشهر الماضية كانت الأوضاع الأمنية في محافظة البصرة مطروحة بقوّة على حكومة العبادي، خصوصا وأنّ المحافظة بمثابة الرئة الاقتصادية للبلد المرتهن بشكل شبه كامل لعوائد النفط.