«الحذر والدرس والتروّي والتدقيق وتقويم المعلومات»، رغم أن «الوضع في سوريا مروع»، يعني أن قرار الضربة العسكرية على طريق التأجيل أو في أفضل الحالات تخفيف حجمها؟ الرئيس دونالد ترامب كان مستعجلاً إلى درجة أنه هدّد بـ«الصواريخ الجميلة والذكية». القيادة العسكرية الأميركية التي تثبت يوماً بعد يوم أنها «تُمسك بالقرار الاستراتيجي»، ضغطت للتأجيل. وزير الدفاع جيمس ماتيس فرض الحذر على قاعدة «تقويم المعلومات حول الهجوم بكيميائي».
سؤال واقعي وحقيقي: هل تردّدت واشنطن لأنها تخشى من مواجهة شاملة مع موسكو؟ خصوصاً بعد أن «تحوّلت سوريا كما قال الرئيس رجب طيب أردوغان إلى ميدان للمنازلة بين بعض الدول الواثقة من قوّتها العسكرية». المؤكد أن واشنطن وموسكو لا تريدان السقوط في فخ المواجهة، لأنه ليس من مصلحتهما ذلك. لكن يبدو من كل ما حدث خلال الـ48 ساعة الأخيرة أن الرئيس دونالد ترامب لعب كثيراً على وتر التصعيد وكأنه يبيع عقاراً يجب رفع سعره. أما موسكو فإنها لعبت بذكاء أكبر وعلى صعيد استراتيجي.
لم ترفع موسكو الصوت مباشرة. قامت بالردّ من لبنان «الحديقة الخلفية» لسوريا. السفير الروسي الكسندر زاسبكين، كان يلتقي قيادة «اليونيفيل» في جنوب لبنان ويستعد لغداء معها. شوهد وهو يردّ على الهاتف مرّات عدّة وطويلاً. ثم اعتذر عن الغداء وخرج بسرعة ليطلق تصريحاً «صاروخياً». هدّد السفير القوى بأن «أي صواريخ أميركية تطلق على سوريا سيتم إسقاطها وستُستهدف مواقع إطلاقها». موسكو سمحت قبل ذلك وجرى تسريب الخبر بقوّة بأن سوريا سحبت معدّاتها من طائرات وغيرها بعيداً عن قواعدها. ثم جرى تسريب خبر آخر بأن الطائرات السورية نُقلت إلى قاعدة حميميم «الروسية» بحيث أصبحت الطائرات والقوات الروسية تُشكّل «درعاً» للمعدّات السورية. الجميع يعرف أنه لا يمكن في حال القصف بالصواريخ عزل الطائرات الروسية عن الطائرات السورية، ليقع الاشتباك الواسع.
المهم، أن ترامب في مأزق كبير. إذا تراجع ولم يضرب، سيجلس «ضعيفاً وعارياً» أمام الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون متى اجتمع معه. أيضاً لن يستطيع أن يتابع تهديداته لإيران بإلغاء الاتفاق النووي. باختصار الرئيس باراك أوباما باع تراجعه عن ضرب الأسد وسوريا بعد كسر «الخط الأحمر»، بموافقة إيران على الاتفاق النووي. أما ترامب فإنه سيبقى في البيت الأبيض «تاجراً» لا يعرف كيف يبيع وكيف يشتري.
إذا لم تقع الضربة الصاروخية والجوية الأميركية، فإن موسكو ستكون الرابح الحقيقي. وهي بهذا ستؤكد وجودها وتمدّدها في منطقة الشرق الأوسط، لأن حلفاءها يمكنهم أن يطمئنوا إلى صلابة «الحائط» الذي يستندون إليه. لكن إذا كانت تركيا عرفت كيف تسحب نفسها باكراً وبسرعة من امتحان المواجهة، فإن إيران وإسرائيل باقيتان وأمام اختبارات كبيرة.
يكفي أن يبقى الأسد وأن لا تُضرب قواته أو تواجه ضربة لا تقتل، وكل ضربة لا تُميت في حالة الأسد تحييه من جديد، لكي تكون طهران قد حققت انتصاراً كبيراً. فهي أمام اختبار جدّي، بعد أقل من عشرين يوماً حول الملف النووي، وعليها أن تجد إجابات سريعة. أيضاً عليها أن تجد صيغة للردّ على إسرائيل التي أغارت على قوّاتها وقتلت باعتراف إيراني لأول مرة عقيداً في «الحرس الثوري» يُقال إنه اختصاصي بسلاح الطيران بدون طيار. وهي إذا لم تردّ على الغارة الإسرائيلية، فإنها ستخسر الكثير حتى ولو ربحت بقاء الأسد. لذلك حتى إسرائيل تتساءل «أين وكيف ومتى ستردّ إيران على الغارة من دون أن تنزلق وإسرائيل معها في حرب واسعة؟».
إسرائيل تستعد للردّ الإيراني بمعزل عن الموقف الأميركي في سوريا. تتوقع إسرائيل أن يكون الردّ الإيراني على موقع يحمل توقيعها من دون أن يورطها كلياً. أبرز المواقع قد يكون يكون يمنياً أي على باب المندب أكثر مما يتوقع الآخرون أن يكون لبنانياً. السؤال الجديد: وماذا لو وقع هجوم أميركي في سوريا استهدف مباشرة مواقع إيرانية أصبحت معروفة؟
هنا المأزق الإيراني الكبير الذي تحمل مواجهة آثاره مأزقاً أكبر، لأنه إذا ردّت إيران على الفعل الأميركي بردّة فعل مباشرة فإنها سوف تنزلق أكثر فأكثر نحو مواجهة غير مدروسة أو محسوبة جيداً. وإذا كانت موسكو تأخذ في الاعتبار «المصالح الإسرائيلية» فتغض النظر عن الغارات الإسرائيلية في سوريا، فهل ستكون أقل منها للمصالح الأميركية؟
أبعد من ذلك، من مصلحة موسكو في وقت تتنامى فيها قوتها في منطقة الشرق الأوسط، وتريد واشنطن أن تنسحب من سوريا عاجلاً أم آجلاً، أن يضعف الموقع الإيراني، حتى تفرض بنفسها توزيع الحصص والمواقع، خصوصاً بالنسبة لإيران التي تطمح للحصول على حصّة في سوريا أكبر بكثير ممّا تستحق.
التداخل العميق للقوى والمصالح على رقعة جغرافية محدودة مثل سوريا، وفي الوقت نفسه ضمن موقع استراتيجي مفتوح، تجعل كل الاحتمالات قائمة وممكنة.
المهم أن يبقى لبنان تحت «المظلة الدولية» لتحميه وتجعل كل الصواريخ تمر فوقه من دون أن تنفجر فيه حتى ولو قيل «ان لبنان تحت الانتداب»، لأنه سيكون بذلك أفضل من سوريا الممزقة والمقسّمة تحت الاحتلال الروسي – التركي – الإيراني، وبإشراف أميركي!